تأملات في ذهب الخريف
يفيق الخريف على
المدينة محاطًا بضباب فضي يشد إليه الصباح الباكر بأذرع هادئة. الشمس تطل بخجل،
كأنها ابتسامة مرهقة بعد ليالٍ طويلة من الأحزان، تُلقي أشعتها على أوراق الأشجار
التي اختلطت ألوانها بين الأصفر والأخضر. تبدو الأوراق كما لو أنها مشبعة بصمت
الجراح، تبث في الروح تأملاً ممزوجًا بالأسى والعمق. الرياح تمر بلطف، تعزف لحناً
شجيًا بين الأغصان، وكأنه وداع غير مكتمل، بينما تتراقص الأوراق في حركات عشوائية
لكنها ساحرة، لتسكن في النهاية على الأرصفة المعتنقة للصمت الهادئ
خطوات تدوس فوق الذكريات،
وكأنها تمحو أثراً لا يُمحى. المارة يندفعون على الأرصفة، أقدامهم تسابق الزمن،
تطأ أوراق الشجر المتناثرة بلا اكتراث، وكأنهم يتجاوزون شظايا حكايات صامتة تجثو
تحت أقدامهم. لو أنهم أدركوا أن كل ورقة ساقطة ليست مجرد هشيم يجرفه الخريف، بل
نبضة استقرت طويلاً في قلب شجرة، ثم تساقطت برفق لتحضنها الأرض التي تعرف سرها،
لربما خففوا وطء خطواتهم وأعاروها شيئًا من الحنان أو الاحترام.
الحافلات والقطارات
تسير بخطى رتيبة فوق طرق المدينة، تحمل معها أجسادًا متعبة وعقولًا منهكة، أرهقها
سهر الليل والعمل الدائم. يحدوهم صمت طويل يرتوي منه الرجاء في راحة قصيرة وسكينة
غامضة. ومع ذلك، تتنفس المدينة بيوم جديد، تفتح صفحات الفجر لتعيد دوران آلاتها
وأصوات أقدام لا تهدأ، تسير بلا توقف نحو حلم آخر لا يزال بعيد المنال.
أما أنا، فيقف بصري
حائرًا على تلك الأوراق التي تتراقص بين زوايا الطرقات. أدرك أن الخريف هنا ليس
فصلاً للذبول أو مدخلًا للنسيان؛ بل حديث صامت يحمل بين أنفاسه رسائل أبدية
للبقاء، وأطيافًا من الآمال المختبئة بين برودة ريح المدينة الصاخبة التي لا تسكن
يومًا.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق