إلى وعد⁵
أكتب لكِ الآن كمن يمشي داخل ضبابٍ كثيف، يحمل معه خرافةً صغيرة عن نفسه،
ويخشى أن تنطفئ هذه الخرافة قبل أن يصل إليك... لم أعد أثق بذاكرتي،
أصبحتْ مثل خزان ماءٍ مثقوب، يُهدر ما تبقى من الأيام، قطرةً قطرة، حتى
باتت اللحظات تنسلّ، من بين أصابعي كأنني أحاول الإمساك بدخان متقطّع.
أحيانًا أصحو وأشعر، أن رأسي غرفة قديمة مكسورة النوافذ، يجتاحها هواءٌ
بارد قادم من ليلٍ لا أعرف مصدره... كل شيء بداخلها يتحرك داخلي ببطء: الأسماء،
الوجوه، الأماكن، الاثاث، والنوافذ... كل الأصوات تتداخل فيّ كأنها قادمة من غرفٍ
في مستشفى مجاور، لا أستطيع التمييز بينها، ولا أعرف أيها لي، وأيها مجرد هلوسة.
أخاف يا وعد؛
أخاف أن كل ما يحدث، ليس فقدًا للذاكرة فقط، أن يكون تلفٌ في الجانب الذي
كنتِ تقيمين فيه مني... كأنكِ تحاولين الخروج من رأسي، وتتركين ورائكِ كرسيًا
فارغًا يتحرك وحده، يبكي وحده، يغلبه البكاء فيضحك وحده، ويعرف أني لن أجلس عليه
مرة أخرى... أخشى تلك اللحظات، التي يتوقف فيها الزمن فجأة، ثم يعاود الدوران،
لكن بطريقة غريبة، مثل مروحة معطوبة تصدر صوتًا حادًا، ولا تمنح هواءً
كافيًا...
تلك اللحظات التي أسأل نفسي فيها:
هل قلت هذه الجملة من قبل؟ هل مشيت في هذا الشارع؟ هل أحببتُكِ حقًا… أم
أني اخترعتكِ لأستطيع التحمل؟
وليس هذا وحده ما يرعبني، ما يرعبني أكثر، أن الوطن نفسه بدأ يتسرب من
رأسي،
كأن الخراب أكل أطراف الذاكرة لدرجة أنني أضيّع الخرائط التي تربيت
عليها...
أحيانًا أنظر إلى العلم فأحسّه غريبًا،
ليس لأنه تغيّر… ربما لأن قلبي تغيّر.
كأنني أعيش في بلدٍ يرميني كل يوم خارجَه،
وأنا أعود، أعود كالمهزوم، كمن يطرق باب بيتٍ لم يعد بيته... أعود، وأعود.
تدرين يا وعد، ماذا يعني أن تحاول تذكّر بلدك، فلا تجد فيه سوى أصوات الانفجارات؟
ماذا يعني أن تتذكر الأزقة، فتتفجر في رأسك صور الشظايا بدلًا من أصوات
الطفولة؟
ماذا يعني أن تحاول استعادة رائحة الخريف، فتشمّ بدلًا منها رائحة
البلاستيك المحترق ولحمٍ مشوي لا تعرف لمن ينتمي؟..
أخشى يا وعد، أن يتحول الخراب إلى ذاكرة أصلية، وأن تختفي الذكريات
الجميلة، كأنها إشاعات… أخشى أن أصدق أننا، لم نكن يومًا سعداء، ولا آمنين، ولا
قادرين على الاحتضان... أخشى أن يصبح الوطن مجرد كابوسٍ قديم أستيقظ منه بلا
أسف...
والآن يا وعد،
اذا ما ضعتُ يومًا، وابتلعني النسيان كما تبتلع المدن الغارقة أبناءها،
فتذكّري فقط أنني حاولت… حاولت أن أكون نورًا صغيرًا في ظلامٍ مهول، حاولت أن أحمي
ما تبقى من قلبي ومن البلد، وحاولت، بكل ما فيَّ من وهن، أن أصل إليكِ… حتى لو
وصلتُ متأخرًا، مهزومًا، ومحمولًا على كتف الذاكرة المكسورة.
هذه نهاية الرسالة يا وعد…وليست نهاية الحكاية... فالروح — حتى حين تتلف —
تبحث بطريقةٍ ما، عن يدٍ تؤمن بأنها ما زالت تستحق أن تُمسَكَ بها.
الطيب عمر
