‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءات نقدية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءات نقدية. إظهار كافة الرسائل

عبقرية المتنبي والسرقات الشعرية: بقلم: عماد خالد رحمة

 




عبقرية المتنبي والسرقات الشعرية:

مناظرة بين الإبداع والاقتباس في النقد العربي القديم

يظلّ المتنبي قامةً شاهقة في تاريخ الشعر العربي، شغلت شعره الأفهام قبل العيون، حتى غدا ظاهرةً تُقرأ أكثر ممّا تُروى. غير أنّ هذه العبقرية كانت سببًا في إثارة عواصف النقد حوله، خصوصًا في قضية «السرقات الشعرية» التي تحوّلت من طعنٍ في شاعر إلى جسرٍ فكريٍّ أنجب وعياً نقدياً متجدداً.

المتنبي بين التهمة والعبقرية

اتّهم خصوم المتنبي بالشطط في تمجيد الذات والمبالغة في تصوير البطولة، ورأوا أنّ في شعره اقتباسًا من السابقين يرقى إلى «السرقة». ولكن أنصاره، وفي مقدمتهم ابن جني، اعتبروا أنّ التشابه ليس انتزاعًا بل تحويلٌ خلاّق. فقد قال ابن جني كاشفًا سرّ عبقريته:

«يأخذ المعنى فيردّه أعذب مما أخذه»

كان هذا القول إرهاصًا مبكرًا لفكرة إعادة تشكيل المعنى، وهي لبّ البلاغة الحديثة.

الجرجاني وابن فورجة:

تفكيك النص بين النقد والدفاع

لم يكن عبد القاهر الجرجاني — على شدّة دقته — خصمًا مطلقًا للمتنبي؛ في الوساطة حاول حماية الذوق من الإفراط في تعظيم الشاعر، معترفًا له بالسبق والصياغة المحكمة، لكنه لم يُعفه من المآخذ والانتحال.

أمّا ابن فورجة فجعل نفسه في صفّ المتراس، يردّ الاتهامات بالتحليل المقارن، مؤكّدًا أن المتنبي:

لا يعيد المعنى كما وُلد بل يخلقه خلقًا جديدًا

وقد برز اتجاه ثالث يرى أنّ الشعر ميراثٌ تراكميّ، ولا عبقرية تقف خارج التاريخ.

حدود الإبداع… أين تبدأ السرقة؟

أشعلت مناظرات المتنبي سؤالًا ما يزال حيًّا في النقد الحديث:

الإبداع السرقة

تحويل الموروث إلى جديد تكرار بلا ابتكار

امتلاك النص روحًا وشكلاً استلاب صريح للمعنى

توسيع الصورة وإشراق العبارة نسخ جامد لما سبق

وخرج سؤال فلسفي يعلّق في الهواء:

هل يمكن للشاعر أن يخلق من فراغ؟

أم أنّ الذاكرة رحمُ الإبداع؟

أثر المتنبي في تطوّر النظرية البلاغية

مفارقة كبرى صنعت مجد المتنبي:

اتهامه بالسرقة أطلق شرارة البحث في أصل المعنى ومبنى العبارة، ورسّخ ما سيُعرف لاحقًا بـ التناصّ دون أن يُسمّى. لقد تحوّل شاعر واحد إلى مختبر نقديّ ضخم:

انتقلت البلاغة من وزن البيت إلى روح المعنى

وُضعت معايير الفارق بين «التأثر» و«الاستلاب»

ظهرت الذات الشاعرة بوصفها صانعة للغة لا ناقلةً لها

المتنبي… شاعر يبتكر نسبه

لم يكن المتنبي ناسخًا بل خيميائيّ المعنى؛ يأخذ من التراث ما يشاء، ثم ينفخ فيه من كبريائه وهواجسه، فيولد نصًّا لا يشبه إلا نفسه. لذلك قال بثقة نادرة:

ما أرانا نقول إلا معادًا

قد تُريد العصور قولَهُ فَيُقالُ

إنّ القصيدة عنده جسر بين الموروث والعبقرية، وليست أبدًا حفرًا في الماضي.

خاتمة

إنّ معارك المتنبي النقدية لم تهزه، بل رسّخت مكانته. فقد خرج من صراعاته أكثر وهجًا، لأنّ نتاجه أعاد للغة سلطانها، وللخيال أفقه المفتوح.

ولذلك بقي المتنبي — كما قال الجرجاني — شاعرًا:

«ما رأى الناسُ مثلَه، ولا رأى هو مثلَ نفسه»

فالعبقرية لا تُقاس بما اقتبسته من الآخرين،

بل بما أضافته إليهم.

لهذا صار المتنبي معيار الإبداع:

لا يتكرّر… بل يُكرِّر تعريف الشعر نفسه

رواية"غربة"للأديب فوزي نجاجرة.

 




رواية"غربة"للأديب فوزي نجاجرة.

بقلم -هدى عثمان.

المكان متخيّل-قرية الحرافيش ومدينة السّلام.

الزّمان -الحاضر.

إنّ القارئ لرواية"غربة" يتذكر بيت الشّعر "وظُلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةَ -على المرءٖ من وَقعِ الحسام المهندٖ"،ونودّ لو نستطيع أن نغمض أعيننا؛لنقول هذا لا يحدث في مجتمعنا،ولكن هيهات للحقيقة أن تنام،  ما دام القلم يكشف عن الأسرار دون خوف.

في رواية"غربة"  يُظهر بطل الرّواية "محمود"مشاعر الغربة التي يعيشها هو وأخته صفية في ظلّ مجتمعه الذي ظلمه،فالغربة ليست في البعد عن الوطن،ولكنها موجودة داخلنا،في أعماق القلب ،في الناحية النّفسية،والعاطفية ،السياسيةوالاجتماعية.

 ينتصر الأديب في روايته للأرامل واليتامى،ويصور السّلطة الذكورية في المجتمع وأثرها على الشخصيات.

تتجلّى غربة محمود في فقدانه هويته،وكرامته الإنسانية،وفي تمزقه الدّاخلي في صراعه مع المجتمع أثناء مواجهته الصعوبات التّي حلّت بالعائلة.

كانت غربة محمود الاجتماعية في فقده للبيئة الآمنة،بسبب ظلم ذوي القربى،فقد كان الأعمام والأخوال سلبيين تجاه الأطفال اليتامى (محمود،وصفية)في عدم احتوائهم عاطفيا واجتماعيا واقتصاديا،ولذا فإنه كان يشعر بالوحدة ،كان  الجدّ الكبير بالسّن الذي تجاوز التّسعين يتكفل برعايتهم!

تلك الغربة سببت له مشاعر العجز في عدم استطاعته حماية أمه( بسبب سنه الصغير) التي دافعت عن نفسها في رفضها الزواج من عيسى أخو زوجها المتوفى،وبالتالي تمّ الاعتداء عليها من قبل إخوتها،وانتحارها بعد صراخ الرّفض والوجع.

أيضا،نجد العجز في إيجاد حلّ لمنع زواج أخته صفية القاصرة ابنة الثالثة عشرة،التّي تزوجت رغما عنها من خليل صاحب الأخلاق السّيئة الذي يكبرها بخمسة عشرة عاما،والغربة هي أيضا، في الفقر العاطفي،فقد نسي أنه إنسان يحتاج للحب،فعلاقته العاطفية مع المديرة "شهيرة" كانت غير عقلانية ولا منطقية،حين قرر أن يتزوج مديرته في المدرسة، والتي بادرته مشاعر العاطفة بالرغم أنها تكبره بسنوات كثيرة وفي عمر أمه،محمود كان جائع للحب، الذي وجده عند المديرة ،ونلاحظ مدى انفعاله المؤثر حين بكى يصف حالته التي بحث عنها،بمعنى آخر، حالة الحب التي اجتاحته هي تعويض نفسي وعاطفي عن برودة المجتمع  القاسي الذي لم يرحم ظروف عائلته(اليتم،الظلم)، لكنه بالنهاية لم ير النور بسبب وفاة المديرة.

لا تقتصر الغربة على محمود فقط، كانت أيضا عند شهيرة بشكل جزئي،من الناحية العاطفية.وعند صفية بشكل كبير مثل محمود.

من جهة أخرى كانت الغربة محفزا لمحمود من أجل النهوض بنفسه،وتحويل غربته لإستقرار، سكن، وأمن،وذلك من خلال تطويرنفسه،في تعلمه،وثمّ اقتصاديا مثل:مشروع مصنع الدجاج.

في نهاية الرّواية،نجد أن محمود وجد نفسه التي يبحث عنها من خلال الأمن العاطفي في علاقته مع زوجته حليمة التّي أحبها،وفي الناحية الاجتماعية من خلال بناء شجرة العائلة الآمنة التي افتقدها في طفولته،فأصبح الخال،والأب،الخ.الوحدة تبدلت بحضرة العائلة إلى مشاعر دافئة وحاضنة اجتماعيا.أمّا من الناحية السّياسية فقد ظلّت غربة الفلسطيني وحده أمام ظلم الاحتلال.

يمرّر الأديب نجاجرة من خلال هذه الرّواية صرخة قوية في وجه المجتمع المنافق دينيا واجتماعيا في عدم تطبيقه لحقوق اليتيم من حيث مراعاته والاهتمام به،وفي الظلم الاجتماعي بين أفراد المجتمع،بمعنى آخر"الإنفصام  الديني" كما ورد على لسان محمود.أثار الأديب نجاجرة مسألة تزويج القاصرات في المجتمع،وإستغلال الطبقات الفقيرة،التّحرش الجنسي،الإشاعات الكاذبة الفاسدة،والحرمان العاطفي.

اختار الأديب فوزي نجاجرة،اسم قرية "الحرافيش" والحرافيش في اللّغة هي سفالة الناس وأرذالهم،وعلاقة الحرافيش بالرّواية مرتبطة بتعامل أخوال وأعمام محمود إليه بصورة سيئة وتصوّر سفلتهم تجاه عائلته.

أمّا مدينة السّلام تبدو رمزا لميناء الرّوح المتعبة التي يبحث عنها  كلّ من محمود، صفية،الأرامل، واليتامى.

جاءت أغلب الشّخصيات النسائية تحمل الصفات الإيجابية،بمقارنة بالشخصيات الذكورية كانت معظمها سلبية.

أسماء الشّخصيات-

حليمة-من الحلم والصبر،كانت صابرة رغم الأذى والعنف من قبل المجتمع.

صفية-من الصفاء والنقاء،كان قلبها نقي تحملت زوجها عيسى.

شهيرة- رغم شهرتها كمديرة وغناها لكنها كانت فقيرة العاطفة،وحيدة.

محمود-كان من الشاكرين لنعم الله،يحب مساعدة الآخرين.خليل-اسم لم يكن مناسبا؛ بسبب صفاته السّيئة،فهو غير وفيّ.

كانت العاطفة حزينة،والأحداث مأساوية،واللون الأسود يخيم على معظم الرّواية، جاء سرد الرّواية بضمير المتكلّم على لسان محمود، وبعض الرّواة، من أجل الإفصاح عن مشاعرهم، وأسرارهم الدّفينة.اقتبس الأديب بعض أقوال الفلاسفة،والكتاب،كما واستخدم الأمثال وأبيات الشّعر،أمّا اللّغة فكانت سهلة،بسيطة،انسيابية.

طغت على الرّواية سواد علاقة ذوي القربى ببعضهم البعض،لم يرحموا اليتامى والأرملة.وتبدو علاقة محمود بأعمامه وأخواله انقطعت للأبد.والسؤال الذي يطرح ألم تتغير الظروف بعد كلّ هذه السّنين الطويلة!هل ماتت الإنسانية في كلّ الأقارب ؟

أم هي إشارة أنّ مجتمعنا في خطر!

سؤال آخر-كيف للجدّ المسّن الذي  تجاوز التّسعين عاما أن يراعي الأيتام ؟بالرغم ممّا ذكر عن صحته الجيدة ونشاطه.

ورد في الرّواية جملة "إعلان بالفيس بوك"ممّا يشير إلى أن الرّواية حدثت في الحاضر المتحضر والمتطور،والسؤال أين القانون في المجتمع،أين المؤسسات الإجتماعية؟هل شاركوا في تزويج القاصر؟لم يكن أي دور للمؤسسات في الرّواية.


"غناء الفراشة " Francis Eklas عبدالجابر حبيب

 





قراءتي لقصيدة الشاعرة إخلاص فرنسيس

      "غناء الفراشة " Francis Eklas

عبدالجابر حبيب

القصيدة

غناء الفراشة

سأرتكبُ الكثيرَ من الحياةِ

وأنا أنتظرُكَ

سأكونُ أكثرَ امتلاءً

وأكثرَ استرخاءً

وأكثرَ اهتماماً بالأملِ

فأنا نادراً ما أتطفّلُ على الحزنِ

وحدَهُ

يبحثُ عن وريدي

يتآلفُ معَ نبضي

وكأنّه الفرحُ الأسمى

وأحياناً أخرى

يسكنُ فوقَ جبيني

وكأنّهُ قبلةُ أبي

يهمسُ في أذنيّ

يسكنُ عينيّ

وحينَ ينضجُ الانتظارُ

أتورّطُ بالرّيحِ

أرفعُ أشرعةَ حلمي

ألمسُ أهدابَ الغيمِ

تقبلُ شمسُ المغيبِ

فأصيرُ فراشةً

تلعبُ بالضّوءِ

تأمرُ القصبَ بالغناءِ

اخلاص فرنسيس

11-11-2020

********

القراءة .......

في قصيدة "غناء الفراشة" للشاعرة إخلاص فرنسيس، تنبع اللغة من عمق التجربة. قصيدةٌ تكتب الفصول على جسد الطبيعة،تتدفق كلماتها بسلاسة نسيم الربيع على جناحي الفرلشة، قصيدة لا تحتاج إلى قيود الوزن.

منذ السطر الأول، تُعلن الشاعرة تمرّدها الجميل على العتمة "سأرتكبُ الكثيرَ من الحياةِ وأنا أنتظركَ"

عبارة تتجاوز حدود الفعل المألوف لتؤسس منذ البداية حالة انزياح يجعل الحياة نفسها فعلاً قابلاً للاستمرارية بأي لون، كأنّ الوجود مغامرة شعورية لا تخلو من المخاطرة والجنون.

في غناء الفراشة تبدو اللغة كائنٌ حيّ يتنفّس داخل النص. الشاعرة تمارس على اللغة انزياحاً هادئاً ومدروساً، فتجعل الحزن يبحث عن وريده، وتُحوّل الانتظار إلى نضج، والريح إلى حليفٍ للحلم.

كل مفردة تؤدي دوراً إيحائياً يتجاوز معناها المعجمي. فالـ"ريح" ليست ظاهرة طبيعية فقط، وإنما رمز للحركة، والانطلاق، والـ"غيم" ليس غطاءً للسماء بل أهدابٌ للحلم.

إنها لغة تشتغل على الحافة بين التجريد، والملموس، بين الشعور، والفكرة، لتصنع صوراً تنبض بالدهشة، والصدق معاً.

بينما تحمل القصيدة  على المستوى الدلالي، و الرمزي أبعاداً متشابكة، تبدأ من الانتظار وتنتهي بالتحوّل إلى فراشة.

الانتظار في القصيدة ليس سكوناً، بل رحلة داخلية في ذات الشاعرة  "وحينَ ينضجُ الانتظارُ أتورّطُ بالرّيحِ"

تربط بين النضج والتورّط، أي بين اكتمال التجربة والدخول في المغامرة.

أما الفراشة التي هي  المحور الذي تدور حوله الدلالات السيميائية، فالفراشة؛ هي صورة للتحوّل والانعتاق من ثقل الانتظار. فهي الكائن الذي يولد من الشرنقة لتعشق الضوء المبهر.

والقصب الذي "تأمره بالغناء" ليحول الصمت إلى غناء،  هكذا تكتمل دائرة الحياة التي تبدأ بالحلم وتنتهي بالإبداع.

نعم إلى  إبداع ضمن إيقاع موسيقيّ داخلي

الإيقاع في "غناء الفراشة" ينبع من داخل اللغة لا من خارجها.

فـتكرار الأصوات الهادئة مثل (سأكونُ، يسكنُ، يهمسُ) يخلق موسيقى ناعمة، تقابلها إيقاعات متصاعدة مع الأفعال ذات الحركة (أرفع، ألمس، أتورّط).

هذا التوازن الصوتي يعكس التحوّل الشعوري في النص من الهدوء إلى الحركة، ومن الانتظار إلى التحليق.

كذلك تعتمد الشاعرة على تقطيع الجمل الشعرية بإيقاعٍ بصريّ متأنٍ، بحيث يبدو كل سطر كنبضةٍ في القصيدة. وهذا ما يجعل النص قابلاً للإنشاد بصوتٍ داخلي حتى في صمته.

 وتصبح الكلمات على هيئة صور جميلة لكائنات تعيش في أحضان الطبيعة، وتلتحم ذات الشاعرة  مع تلك الكائنات المسافرة في روحها.

الشاعرة لا تصف العالم الخارجي، بل تذوب فيه:

"أرفعُ أشرعةَ حلمي / ألمسُ أهدابَ الغيم / تقبلُ شمسُ المغيب."

ولا نستغرب حينما تتحول الشاعرة إلى كيانٍ كونيّ، تُدرك الأشياء لا من خارجها بل من داخلها.

الصورة الشعرية عندها ليست زينة بل طريقة لرؤية العالم، ومن خلالها نلمح التدرّج الجمالي من الحزن إلى الأمل، ومن الألم إلى النور.

حتى قبلة الأب على الجبين جاءت كاستعارةٍ للحماية والطمأنينة، وكأنّ النص يوازن بين دفء الذاكرة وبرودة الغياب.

قصيدة تتحدّث بنبضٍ إنسانيّ، بمشاعر تتدفق بانسيابية، ونلمس ذلك في صدق الشعور وهدوء التعبير؛ فالشاعرة لا تصرخ بالألم، بل تهمس به، ولا تبوح بالحبّ علناً، بل تتركه يلمع بين السطور.

انسياب الجمل وتدفقها بلا عُقد لغوية يمنح القارئ شعوراً بأنه يسمع نغمة داخلية صاعدة من القلب مباشرة، نغمة بين الرغبة والخوف، بين الانتظار واليقين.

هكذا استطاعت الشاعرة أن تخلق توازناً بين الشكل والمضمون، بين الفكر والإحساس، بين الصورة والفكرة، بين الرمز والمباشرة،  وأن تُظهر جمال الحرية التي يتيحها الشعر الحر دون أن تفقد اللغة انضباطها الجمالي.

فالرمزية لم تكن عبئاً على المعنى، بل وسيلة لإثرائه. والفراشة لم تكن زينة لغوية، بل جوهر التجربة الشعرية ذاتها.

إن "غناء الفراشة" ليست  قصيدة عن انتظارٍ أنثويّ أو حنينٍ إلى الآخر، هي تحوّل داخلي للروح.

من الحزن إلى الأمل، من الصمت إلى الغناء، من الإنسان إلى الفراشة.

بهذا الانسياب اللغوي والرمزي والإيقاعي، تتحوّل القصيدة إلى لوحةٍ حيةٍ مرسومة في الطبيعة، تُغنّي فيها الشاعرة للحياة،  كأنها تقول لنا في ختام النص:

إن الجمال لا يُكتَب بالكلمات فقط، بل بما تتركه اللغة من أثرٍ يشبه رفرفةَ جناحٍ في لحظة يأس، أو طلوع برعم من تحت الرماد.


ورقة نقدية في لوحة الفنانة التشكيلية "Khunav Saleh" بقلم : محمد حجازي ابرديني

 

ورقة نقدية في لوحة الفنانة التشكيلية "Khunav Saleh"
حين تتكلم الألوان بلسان الأسطورة.
بقلم: محمد حجازي البرديني.
يا للوحةٍ لا تُرى بالعين، بل تُحَسُّ بالقلب! ويا لألوانٍ تُبصرها الروح قبل البصر! حين تقع عين المتأمل على عمل الفنانة Khunav Saleh، يشعر كأنه أمام قصيدةٍ مكتوبة بالألوان، وأن كل ضربة فرشاةٍ فيها بيتُ شعرٍ من نارٍ ونور.
فاللوحة ليست رسمًا فحسب، بل رحلة وعيٍ وجمالٍ تمتد من تخوم الأسطورة إلى شغاف الإنسان. في ظاهرها مشهدٌ من الضوء والظل، وفي باطنها نسيجٌ من المعنى، خيوطه تمتد بين ما هو مرئي وما هو متخيَّل.
كأن اللوحة وُلدت من رحم الحلم، لا من ريشة فنانة فحسب، بل من روحٍ تمتح من الضوء والمسكوت عنه؛ فحين نُقبل على لوحة Khunav Saleh، لا نرى ألوانًا تُسكب على لوحة، بل نرى حكاية إنسانٍ يسير في متاهة ذاته؛ تتلوّن خطواته بأطياف الروح، وتتعانق فيها الرموز والأساطير كما تتعانق أمواج البحر في شفق المغيب.
فمن حيث البناء التشكيلي، تتقاطع الخطوط في انحناءاتٍ لا تخلو من الموسيقى، وكأن الريشة تعزف على وترٍ خفيّ.
التعرجات التي تمتد بين الألوان تشكّل إيقاعًا بصريًا، لا يخضع لصرامة الهندسة، بل يتنفس ككائن حيٍّ ينهض وينحني وفق نبضه الداخلي.
والنتوءات الصغيرة تشبه تضاريس الذاكرة، كل بروز منها يُعلن عن جرحٍ أو نبوءة، وكل ظلّ يُشير إلى ما أخفته التجربة خلف الألوان.
فالانحناءات والتعرجات والنتوءات، ليست عشوائية. كل منحنى يلمح إلى قصة داخلية، كل التواء يوحي بحركة حياتية متوترة بين الحلم والواقع، بين الخيال واليقين. والنتوءات والطبقات المكانية تمنح اللوحة بعدًا ثالثًا، كأننا ننظر إلى عالم حي يتنفس تحت سطح اللوحة، عالم يحمل أسرارًا وأساطير لا تنتهي.
أما الإضاءة في العمل ليست مصدرًا خارجيًا، بل نور داخلي يخرج من بين الشقوق، كما لو أن اللوحة تُضيء ذاتها بنفسها.
هنا يتحوّل الضوء إلى بطلٍ صامتٍ، يهمس في أذن المتلقي: انظر بعيني القلب، لا بعيني الرأس. فالإضاءة هنا ليست مجرد أداة لإظهار الشكل، بل هي لغة روحية، تُمهد الطريق لتجربة المشاهدة العاطفية. الضوء لا يسقط على الأشياء فحسب، بل يلمس الروح؛ يكشف عن أبعاد مخفية ويجعل القارئ يرى أكثر مما تراه العين وحدها.
فكل عنصر في اللوحة يخدم فكرة أكبر: أن الفن هو تجربة وجدانية قبل أن يكون رؤية بصرية.
والحقيقة أنّ ما يُميّز أسلوب Khunav Saleh هو القدرة على مزج التجربة الشخصية بالرمزية العامة، بحيث يشعر المتلقي بأن اللوحة ليست مجرد رؤية فنية، بل رحلة ذاتية نحو ذاته، رحلة يرافقها الانبهار، والتساؤل، والدهشة. في النهاية، نجد أنفسنا أمام لوحة لا تروي قصة واحدة، بل تفتح لنا أبوابًا لقصص متعددة، حيث يلتقي الأسطورة بالواقع، والخيال بالحقيقة، والحضور بالغياب. فالرمزية في هذه اللوحة متشابكة بعناية. والقناع الذي يظهر في أحد أركانها ليس مجرد رمز للهوية المخبأة أو الغموض، بل دعوة صامتة للغوص في أعماق النفس البشرية لاستكشاف التناقض بين ما نراه وما نخفيه. أما الأسطورة هنا لا تأتي من حكاية قديمة، بل من إحساس متجدد بالعالم الداخلي للإنسان، حيث يتصارع الواقع مع الحلم في كل زاوية من اللوحة.
في الركن البعيد من اللوحة، يطل القناع كأنه وجه الحقيقة المجهولة. ليس القناع هنا إخفاءً للهوية، بل كشفٌ مضاعف عنها. إنه رمز الإنسان الذي يعيش في صراع بين الظهور والاختفاء، بين ما يبوح وما يكتم.
أما الألوان المتقابلة، الأرجواني والأزرق والذهبي، فهي رموز لحالات الوجود:
الأرجواني يدل على الحنين والرفعة الروحية،
الأزرق على الغياب والهدوء الميتافيزيقي،
والذهبي على الخلاص والخلود.
هكذا تتحول اللوحة إلى مرآة لروح الإنسان حين يتأمل وجهه الحقيقي خلف القناع، ويكتشف أن الجمال ليس ما نراه، بل ما نؤمن أنه كامن في الظل.
تستدعي Khunav Saleh في عملها روح الأسطورة لا من باب الحكاية، بل من باب الرؤية.
في ملامح اللوحة إشارات إلى أنثى بدائية مقدسة، تلك التي كانت تمسك بخيوط الفجر وتغزل منها ضوء الحياة.
هي ليست امرأة محددة، بل رمز الأنوثة الكونية، الرحم الأول الذي وُلد منه الكون.
هكذا، تندمج ملامح المرأة في اللوحة مع عناصر الطبيعة، التراب والضوء والماء، لتصنع ميثولوجيا جديدة، يكون فيها الجمال فعل خلقٍ أبديّ.
وتُقدِّم اللوحة نفسها كنصٍّ مفتوح على التأويل؛ لا تفرض معنى، بل تُثير سؤالًا:
من أنا في هذا العالم المتشقق بالألوان؟
هنا يتحد المتلقي مع اللوحة في حوارٍ صامت، يتجاوز ظاهر الشكل إلى باطن الشعور.
فمن يرى فيها حزنًا قد يكتشف أن الحزن كان طريقًا للجمال، ومن يراها صراعًا قد يكتشف أن الصراع هو ذاته ولادة جديدة.
في ضوء التحليل النقدي السابق للوحة، نرى أن لوحة Khunav Saleh ليست عملًا بصريًا فحسب، بل تجربة روحية وجمالية متكاملة.
كل لون فيها فكرة، وكل انحناءة تأمل، وكل ظلّ اعتراف.
لقد جمعت الفنانة بين الصرامة الأكاديمية والعفوية الشعرية، فصاغت عالمًا يعجز اللسان عن وصفه؛ فالجمال في اللوحة لا يُرى بالعين، بل يُحَسّ بالقلب.
وهكذا، تصبح لوحتها نبوءة في شكل لون، واعترافًا في هيئة ضوء، ورحلة لا تنتهي في عمق الإنسان.
استكملت الورقة النقدية بتاريخ الثلاثاء 4 / 11 / 2025 م.
mohammedalbordene@gmail.com
962776537021


ورقة نقدية في لوحة الفنانة التشكيلية "Khunav Saleh" بقلم: محمد حجازي البرديني



ورقة نقدية في لوحة الفنانة التشكيلية "Khunav Saleh"
حين تتكلم الألوان بلسان الأسطورة.
بقلم: محمد حجازي البرديني.
يا للوحةٍ لا تُرى بالعين، بل تُحَسُّ بالقلب! ويا لألوانٍ تُبصرها الروح قبل البصر! حين تقع عين المتأمل على عمل الفنانة Khunav Saleh، يشعر كأنه أمام قصيدةٍ مكتوبة بالألوان، وأن كل ضربة فرشاةٍ فيها بيتُ شعرٍ من نارٍ ونور.
فاللوحة ليست رسمًا فحسب، بل رحلة وعيٍ وجمالٍ تمتد من تخوم الأسطورة إلى شغاف الإنسان. في ظاهرها مشهدٌ من الضوء والظل، وفي باطنها نسيجٌ من المعنى، خيوطه تمتد بين ما هو مرئي وما هو متخيَّل.
كأن اللوحة وُلدت من رحم الحلم، لا من ريشة فنانة فحسب، بل من روحٍ تمتح من الضوء والمسكوت عنه؛ فحين نُقبل على لوحة Khunav Saleh، لا نرى ألوانًا تُسكب على لوحة، بل نرى حكاية إنسانٍ يسير في متاهة ذاته؛ تتلوّن خطواته بأطياف الروح، وتتعانق فيها الرموز والأساطير كما تتعانق أمواج البحر في شفق المغيب.
فمن حيث البناء التشكيلي، تتقاطع الخطوط في انحناءاتٍ لا تخلو من الموسيقى، وكأن الريشة تعزف على وترٍ خفيّ.
التعرجات التي تمتد بين الألوان تشكّل إيقاعًا بصريًا، لا يخضع لصرامة الهندسة، بل يتنفس ككائن حيٍّ ينهض وينحني وفق نبضه الداخلي.
والنتوءات الصغيرة تشبه تضاريس الذاكرة، كل بروز منها يُعلن عن جرحٍ أو نبوءة، وكل ظلّ يُشير إلى ما أخفته التجربة خلف الألوان.
فالانحناءات والتعرجات والنتوءات، ليست عشوائية. كل منحنى يلمح إلى قصة داخلية، كل التواء يوحي بحركة حياتية متوترة بين الحلم والواقع، بين الخيال واليقين. فالنتوءات والطبقات المكانية تمنح اللوحة بعدًا ثالثًا، كأننا ننظر إلى عالم حي يتنفس تحت سطح اللوحة، عالم يحمل أسرارًا وأساطير لا تنتهي.
أما الإضاءة في العمل ليست مصدرًا خارجيًا، بل نور داخلي يخرج من بين الشقوق، كما لو أن اللوحة تُضيء ذاتها بنفسها.
هنا يتحوّل الضوء إلى بطلٍ صامتٍ، يهمس في أذن المتلقي: انظر بعيني القلب، لا بعيني الرأس. فالإضاءة هنا ليست مجرد أداة لإظهار الشكل، بل هي لغة روحية، تُمهد الطريق لتجربة المشاهدة العاطفية. الضوء لا يسقط على الأشياء فحسب، بل يلمس الروح؛ يكشف عن أبعاد مخفية ويجعل القارئ يرى أكثر مما تراه العين وحدها.
فكل عنصر في اللوحة يخدم فكرة أكبر: أن الفن هو تجربة وجدانية قبل أن يكون رؤية بصرية.
والحقيقة أنّ ما يُميّز أسلوب Khunav Saleh هو القدرة على مزج التجربة الشخصية بالرمزية العامة، بحيث يشعر المتلقي بأن اللوحة ليست مجرد رؤية فنية، بل رحلة ذاتية نحو ذاته، رحلة يرافقها الانبهار، والتساؤل، والدهشة. في النهاية، نجد أنفسنا أمام لوحة لا تروي قصة واحدة، بل تفتح لنا أبوابًا لقصص متعددة، حيث يلتقي الأسطورة بالواقع، والخيال بالحقيقة، والحضور بالغياب. فالرمزية في هذه اللوحة متشابكة بعناية. والقناع الذي يظهر في أحد أركانها ليس مجرد رمز للهوية المخبأة أو الغموض، بل دعوة صامتة للغوص في أعماق النفس البشرية لاستكشاف التناقض بين ما نراه وما نخفيه. أما الأسطورة هنا لا تأتي من حكاية قديمة، بل من إحساس متجدد بالعالم الداخلي للإنسان، حيث يتصارع الواقع مع الحلم في كل زاوية من اللوحة.
في الركن البعيد من اللوحة، يطل القناع كأنه وجه الحقيقة المجهولة. ليس القناع هنا إخفاءً للهوية، بل كشفٌ مضاعف عنها. إنه رمز الإنسان الذي يعيش في صراع بين الظهور والاختفاء، بين ما يبوح وما يكتم.
أما الألوان المتقابلة، الأرجواني والأزرق والذهبي، فهي رموز لحالات الوجود:
الأرجواني يدل على الحنين والرفعة الروحية،
الأزرق على الغياب والهدوء الميتافيزيقي،
والذهبي على الخلاص والخلود.
هكذا تتحول اللوحة إلى مرآة لروح الإنسان حين يتأمل وجهه الحقيقي خلف القناع، ويكتشف أن الجمال ليس ما نراه، بل ما نؤمن أنه كامن في الظل.
تستدعي Khunav Saleh في عملها روح الأسطورة لا من باب الحكاية، بل من باب الرؤية.
في ملامح اللوحة إشارات إلى أنثى بدائية مقدسة، تلك التي كانت تمسك بخيوط الفجر وتغزل منها ضوء الحياة.
هي ليست امرأة محددة، بل رمز الأنوثة الكونية، الرحم الأول الذي وُلد منه الكون.
هكذا، تندمج ملامح المرأة في اللوحة مع عناصر الطبيعة، التراب والضوء والماء، لتصنع ميثولوجيا جديدة، يكون فيها الجمال فعل خلقٍ أبديّ.
وتُقدِّم اللوحة نفسها كنصٍّ مفتوح على التأويل؛ لا تفرض معنى، بل تُثير سؤالًا:
من أنا في هذا العالم المتشقق بالألوان؟
هنا يتحد المتلقي مع اللوحة في حوارٍ صامت، يتجاوز ظاهر الشكل إلى باطن الشعور.
فمن يرى فيها حزنًا قد يكتشف أن الحزن كان طريقًا للجمال، ومن يراها صراعًا قد يكتشف أن الصراع هو ذاته ولادة جديدة.
في ضوء التحليل النقدي السابق للوحة، نرى أن لوحة Khunav Saleh ليست عملًا بصريًا فحسب، بل تجربة روحية وجمالية متكاملة.
كل لون فيها فكرة، وكل انحناءة تأمل، وكل ظلّ اعتراف.
لقد جمعت الفنانة بين الصرامة الأكاديمية والعفوية الشعرية، فصاغت عالمًا يعجز اللسان عن وصفه؛ فالجمال في اللوحة لا يُرى بالعين، بل يُحَسّ بالقلب.
وهكذا، تصبح لوحتها نبوءة في شكل لون، واعترافًا في هيئة ضوء، ورحلة لا تنتهي في عمق الإنسان.
استكملت الورقة النقدية بتاريخ الثلاثاء 4 / 11 / 2025 م.
mohammedalbordene@gmail.com

962776537021 

ورقة نقدية: "حين يلتقي القدر: الكوبليه الأخير في قارئة الفنجان". إعداد: محمد حجازي البرديني.







ورقة نقدية: "حين يلتقي القدر: الكوبليه الأخير في قارئة الفنجان".

https://www.facebook.com/share/v/1DNWEWiytK/

إعداد: محمد حجازي البرديني.

تمهيد

في لحظة الكوبليه الأخير من أغنية “قارئة الفنجان”، يبدو أن الكون كله قد توقف ليشهد اجتماع ثلاثة من عمالقة الفن الكبار: نزار قباني شعراً، محمد الموجي موسيقىً، وعبدالحليم حافظ غناءً.

هنا لا نسمع أغنية فحسب، بل نشهد ميلاد معجزة فنية، وولادة أسطورة، وظهور ملحمة لا تنتهي.

الكلمة عند نزار ليست مجرد لفظ، بل نبض قلب. اللحن عند الموجي ليس مجرد نغمة، بل روح تهتف. والصوت عند عبدالحليم ليس أداء، بل اعتراف إنساني حيّ.

نزار قباني – شاعر القدر والحنين.

الكوبليه الأخير هو ذروة الشعور والحكمة في الشعر.

نزار قباني لم يكتب هنا وصفًا عاديًا للحب، بل صاغ نبوءة العاطفة النهائية.

كل كلمة وكأنها شمعة تضيء الزوايا المظلمة في القلب، وكل جملة مثل رسم مصيري على جدار الوجد.

"ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان..."

الكلمات بسيطة للعين، عميقة للقلب، تحمل كل من الشوق والفقد، وكل من الانتظار والقدرة على الرؤية. إنها لغة الخلود، لغة العاطفة الحقيقية التي تتجاوز كل زمان ومكان.

محمد الموجي – الموسيقى جسد المشاعر.

الموجي هنا ليس مجرد ملحن، بل مهندس وجداني.

لقد صاغ الألحان لتتوافق مع انفعالات النص الشعري، فتصعد مع كل كلمة، وتغوص مع كل صمت.

المقامات الشرقية عنده تصبح فضاءً للأمل واليأس معًا، والنغمات تتماوج كما تتماوج أرواح العشاق.

كل لحظة موسيقية في الكوبليه الأخير تدفع النص نحو التجلي الفني الأسمى، وتمنحه بُعدًا وجدانيًا لا يمكن لأي مستمع أن يقاومه.

عبدالحليم حافظ – الصوت بوصفه كائنًا حيًّا.

عبدالحليم هنا ليس مغنيًا، بل كائنًا حيًا ينبض بالعاطفة.

صوته في الكوبليه الأخير يمزج بين الرقة والاعتراف، بين الحنين والنداء.

يبدأ همسًا كخوف الطفل، ثم يعلو كصرخة العاشق الذي عرف الفقد، ليجعل المستمع شريكًا في اللحظة العاطفية.

كل انحناءة في صوته، وكل توقّف للحظة، يحوّل الكلمات إلى دموع موسيقية تفيض على القلب، فتشعر أنك لا تسمع أغنية، بل تعيشها.

النتيجة الإبداعية – معجزة وأسطورة وملحمة.

حين يجتمع هؤلاء الثلاثة في الكوبليه الأخير، تولد المعجزة، حيث الكلمات واللحن والصوت يصبحون كيانًا واحدًا:

- معجزة فنية: لا يمكن لفنان واحد أن يحققها؛ فالعمل يُصنع من تلاقح العقول والقلوب.

- أسطورة: الأغنية تصبح خالدة، كل مرة تسمعها تشعر وكأنك تسمعها لأول مرة.

- ملحمة: كل لحظة تصعد بالعاطفة، فتعيش الحب والفقد والشغف في آن واحد، كما لو كانت حياة كاملة في دقائق معدودة.

باختصار، الكوبليه الأخير ليس نهاية أغنية، بل ذروة الفن العربي الأصيل، حيث الكلمة تصبح نبضًا، اللحن يصبح روحًا، والصوت يصبح اعترافًا حيًّا. وهكذا تتحول تجربة الاستماع إلى رحلة وجدانية خالدة.

mohammedalbordene@gmail.com

962776537021

استكملت الورقة النقدية بتاريخ الخميس 2 / 10 / 2025 م.


قراءة نقدية في لوحة (العرش والعش) بقلم: محمد حجازي البرديني.



قراءة نقدية في لوحة (العرش والعش) للفنانة التشكيلية فيفيان الصايغ؛ (Vivian Alsaegh).
بقلم: محمد حجازي البرديني.
في زاويةٍ من صمت الألوان، تتربّع الرموز في لوحة الفنانة فيفيان الصايغ كأنها مملكة صغيرة من الدهشة، فيها العرش، والعش، والطائر، والنور الذي يتسرّب من الغياب كأنّه دمعة ضوءٍ على خدّ الزمن.
هذه اللوحة ليست مشهدًا بسيطًا من الحياة، بل هي قصيدة من الفكر البصري، تفيض رموزًا وتأملًا، كأنها مرآة لزمنٍ أضاع ملكه فبقي الكرسي شاهدًا عليه.
اللون الأحمر: لهب الذاكرة ودم العالم.
اللوحة تفتح بابها باللون الأحمر، لا الأحمر الذي يُرى، بل الأحمر الذي يُشعر.
لون يشبه صوت القلب حين يئنّ، كأنّ خلفية اللوحة جدار من الحنين، أو مسرح انطفأت عليه الأنوار وبقيت دماء الحلم تضيء المكان.
هو لونٌ يذكّر بالحبّ حين يشيخ، وبالدمع حين يخجل أن يسقط.
في هذا اللون تُقام الدراما الصامتة: صراع بين البقاء والغياب، بين العرش والطائر، بين الإنسان والطبيعة التي حلّت محلّه.
الأحمر هنا ليس تزيينًا بصريًا، بل هو الروح السرية للوحة، ينبض خلف الأشياء، يدفئها من الداخل، ويجعل كل ما فوقه حيًّا بالمعنى وإن مات بالشكل.
الكرسي: عرش الذاكرة ووحشة السلطان الغائب.
في قلب اللوحة، يتوسّط الكرسي المشهد كأنه مركز الوجود.
كرسيٌّ فخمٌ، بزخارفه البيضاء الناعمة، ومسانده الملتوية، وكأنّه عرش خرج من قصيدة ألف ليلة وليلة، ثم تُرك وحيدًا في مسرحٍ بلا جمهور.
لا أحد يجلس عليه، لا بشر، لا ملك، لا أمير؛ جلست عليه الطبيعة نفسها في هيئة عشٍّ وطائر.
هنا تكمن المأساة الفنية الكبرى في اللوحة: غياب الإنسان عن مكانه الطبيعي، وتركه للجماد كي يحيا بدونه.
ذلك الكرسي هو استعارة لكل ما فقدناه: السلطة، الذاكرة، البيت، الوطن، المعنى.
وقد أرادت الفنانة أن تقول بلغة اللون: "كم من عروشٍ خلت، وكم من أماكنَ لم تعد تعرف أصحابها."
العشّ والطائر: الحياة تعيد صياغة القصر.
فوق العرش، يعلو عشٌّ من الأغصان الملتفة بخيوط من الحليّ والخرز والمجوهرات.
ما كان للذهب أن يصعد إلى هناك، لكنّه صعد.
وكأنّ الفنانة تقول إنّ القيمة لم تعد فيما يلمع، بل فيما يحيا.
الطائر الذي يقف على العشّ ليس مجرد كائنٍ بريء، بل رمزٌ للحرية التي وجدت مأواها فوق رماد الإنسان.
إنّه صوت الطبيعة وهي تستعيد سلطانها، تحوّل العرش الفخم إلى عشّ بسيط، وتعلن أن الحياة يمكن أن تبدأ حتى فوق أطلال المجد.
الطائر الأسود ذو الصدر الأبيض يرمز إلى التناقض بين الظلمة والنور، بين الأرض والسماء.
هو الغراب الذي يبشّر بالنهاية، وهو الحمامة التي تبشّر بالبداية.
رمزٌ مزدوجٌ كالحقيقة نفسها؛ مؤلمٌ وجميل في آنٍ واحد.
الإضاءة والظلّ: المسرح الداخلي للّوحة.
كل شيء في اللوحة يغتسل بنورٍ خافتٍ، كأنّ الضوء نفسه خائفٌ من أن يوقظ الأسرار.
الإضاءة تتركّز على الكرسي، لتجعله بؤرة العين والعقل معًا.
لكنها ليست إضاءةً كاملة، بل ضوءٌ يشبه ذاكرة الحلم، يُريك ويخفي، يفضح ويستحي.
تحت الكرسي يمتدّ ظلٌّ ثقيل، لا كظلٍّ مادي، بل كظلّ معنى، كأنّ الماضي نفسه ما زال جالسًا هناك، وإن غاب الجسد.
أما الخلفية، فقد ملأتها الفنانة بمصابيح الشوارع، أعمدة الإنارة التي تقف في صمتٍ، كأنها شهودٌ على العرش المهجور.
تضيء ولا تضيء، تراها ولا تراها، فهي ليست لإضاءة الطريق، بل لإضاءة المعنى.
وفي تكرارها، إحساسٌ بالوحدة، وبأن المدينة نفسها تراقب المشهد من بعيد.
الرمزية والتأويل.
كل عنصرٍ في اللوحة يحمل رمزه الخاص:
الكرسي: السلطة، الغياب، الماضي المجيد.
العشّ: عودة الطبيعة، ولادة جديدة، معنى البقاء بعد الفناء.
الطائر: الحرية، الرقيب، روح الإنسان حين تغادر الجسد.
اللون الأحمر: الشغف، الذاكرة، الاحتراق.
أعمدة الإنارة: الحضور الميت، العين التي ترى ولا تنقذ.
ومن تآلف هذه الرموز، تولد الدراما الصامتة التي تُشعرك أن اللوحة لا تصوّر مشهدًا، بل تتكلّم بلغتها الخاصة، بلا صوتٍ، لكنها تفهمك تمامًا.
الرؤية الجمالية والفلسفية.
تقدّم الفنانة في هذه اللوحة تأمّلًا في معنى الوجود والزمن.
فما بين العرش والعشّ، مسافةٌ فلسفية هائلة: من القصور إلى الأغصان، من المجد إلى البساطة، من الزينة إلى الحياة الحقيقية.
وكأنها تقول: كل ما يبقى بعد زوال الإنسان، هو ما استطاع أن يتحرّر من غروره.
العشّ الذي حلّ محلّ التاج هو إعلان انتصار الطبيعة على الزيف، والحياة على الترف، والبساطة على الكِبر.
هذه اللوحة، وإن بدت هادئة، فإنها تتكلّم عن الثورة الكبرى في الوجود؛ عودة الأصل إلى مكانه.
هي لوحة فلسفية مغلّفة بجمالٍ بصريٍّ ساحر، تنفذ إلى القلب قبل العين، وإلى المعنى قبل الشكل.
خاتمة: في معنى الجمال والصمت.
حين تقف أمام هذه اللوحة، تشعر أنّ الطائر سينطق، وأنّ العرش سيذكر اسم صاحبه، وأنّ المصابيح ستبكي نورها الأخير.
إنّها لوحة لا تُقرأ بالعين فقط، بل بالقلب والعقل والذاكرة.
فيها من جمال الهدوء ما يجعلها صلاة لونية، ومن عمق الفكرة ما يجعلها كتاب تأملٍ مفتوح.
لقد جعلت فيفيان الصايغ من الألوان كلمات، ومن الأشكال جُمَلًا، ومن الضوء حكايةً عن الإنسان حين يغيب، والطبيعة حين تحيا مكانه.
تلك هي اللغة الصامتة للجمال؛ فالجمال صوت الله في الأشياء، وإن الفن صلاةٌ ترفعها الألوانُ بدلَ الحروف.
كتبت الإضاء النقدية بتاريخ الأحد 5 / 10 / 2025 م.
mohammedalbordene@gmail.com
962776537021

قراءة نقدية في لوحة الفنان التشكيلي لقمان أحمد، بقلم: محمد حجازي البُرديني.





قراءة نقدية في لوحة الفنان التشكيلي لقمان أحمد.

بقلم: محمد حجازي البُرديني.

مدخل إلى الانطباع:

حين نقف أمام لوحة الفنان التشكيلي لقمان أحمد، ندرك أننا لا نواجه مجرد عمل بصري، بل عالمًا وجدانيًا متفجّرًا بالأحاسيس.

اللون عند لقمان ليس طلاءً يُسكب على السطح، بل صوت داخليٌّ يبوح بما لا يُقال.

فلوحته تنتمي إلى مدرسة الحرية والانفعال، حيث يتحوّل الماء واللون إلى كائنٍ حيّ ينبض بالعاطفة والبحث.

إنها ليست لوحة عن العالم، بل عن النظرة إلى العالم؛ ليست وصفًا للظاهر، بل ترجمة لما يجري في أعماق الروح.

وفي هذا تكمن فرادتها: أنها لا تسعى إلى الإقناع البصري بقدر ما تسعى إلى الإشراق الوجداني، إلى أن تهزّ المتلقي من الداخل.

المشاهد العادي، حين يقترب منها، لا يحتاج إلى ثقافة نقدية ليفهمها، لأنه يشعر بها قبل أن يفسّرها.

فهي تتحدث بلغة مشتركة بين جميع البشر: لغة اللون، والدهشة، والحلم.

التكوين واللون:

يبني الفنان لقمان أحمد لوحته على توازنٍ خفيٍّ بين التناقضات.

الجانب الأيمن تغشاه ظلال الأزرق والرمادي، حيث العمق والتأمل والسكينة، في حين يتوهّج الجانب الأيسر بالأصفر والبرتقالي والأحمر، ألوان الحياة والحركة والانبعاث.

بين المنطقتين يمتدّ جسر من الألوان الممزوجة، كأنه مساحة عبورٍ من الحزن إلى الأمل، أو من الصمت إلى الكلام.

الألوان عند لقمان ليست زينة، بل حالة نفسية كاملة.

الأزرق في لوحاته غالبًا ما يشير إلى الغور الداخلي للذات، بينما الأصفر شمسٌ تتسلّل من وراء الغيوم، أما الأحمر فهو نبض القلب وسط العاصفة.

ومن خلال هذا التفاعل اللوني، يخلق الفنان إيقاعًا بصريًا حيًّا يجعل العين لا تستقر، بل تتنقّل في فضاء اللوحة كما لو كانت تتجوّل داخل حلمٍ مفتوح.

اللون عنده لا يُحدّد الشكل، بل يُحرّر الروح من قوالبها.

وهنا نلمس نزعة فلسفية عميقة: فالتجريد عند لقمان ليس هروبًا من الواقع، بل محاولة لفهم جوهره الأعمق.

الحركة والإيقاع:

تنبض اللوحة بحركةٍ خفية تذكّر بإيقاع الموسيقى الحرة.

ضربات الفرشاة ليست عشوائية، بل مُفعمة بالنية الشعورية.

كل تموّجٍ في اللون هو أثر من نبضة داخلية، وكل انسيابٍ مائيٍّ هو أثر من زفيرٍ عاطفيٍّ عميق.

تتحرك العين بين الظلال والأنوار كما لو كانت تتتبع إيقاع قصيدةٍ غير مكتوبة.

وهناك، في منتصف اللوحة، خطوط رقيقة توحي بملامح كائنٍ أو وجهٍ أو طيفٍ أسطوري — لكنها لا تتضح تمامًا، وكأن الفنان يريدنا أن نكمّلها بخيالنا.

بهذا الغموض الجميل، يُبقي لقمان الحوار مفتوحًا بين اللوحة والمشاهد؛ فكل عين تراها بشكلٍ مختلف، وكل روحٍ تقرؤها بمعناها الخاص.

الحركة هنا ليست مادية، بل وجدانية؛ تتدفق من داخل اللون لا من خارجه.

إنها حركة الروح بين الغياب والظهور، بين الحلم والحقيقة، بين انفعال اللحظة وبصيرة الزمن.

الرموز والدلالات:

رغم تجريدها، تزخر لوحات لقمان أحمد بالرموز الضمنية والإشارات الباطنية.

اللون الأصفر المشع في مركز اللوحة يرمز إلى الروح المضيئة أو شمس الوعي الداخلي، بينما الأزرق الغامق على الأطراف يوحي بـ الليل أو الذاكرة الغامضة.

أما البقع الحمراء المتناثرة، فهي نبض الدم والحياة والمشاعر الإنسانية المشتعلة.

هكذا يتحوّل التكوين إلى خريطة روحية: صراع بين النور والظل، بين الأمل والقلق، بين الصوت والصمت.

لكن هذا الصراع لا يُنهي نفسه في انتصار طرفٍ على آخر، بل في تعايشٍ جميل بين المتناقضات.

وهنا تكمن فلسفة لقمان أحمد الجمالية — أنه يرى الجمال في التنافر، والوحدة في الاختلاف، والصفاء في التداخل.

إنه لا يقدّم رموزًا مغلقة، بل إشارات مفتوحة تدعو المتلقي إلى التأمل لا إلى التفسير.

لوحته تشبه حلمًا مشتركًا بين الفنان والعالم، يتبدّل مع كل نظرة ويعيد تعريف نفسه كل مرة.

الانفعال العام والخاتمة:

تترك لوحة لقمان أحمد في النفس أثرًا من السكينة الممزوجة بالدهشة.

فيها دفء الضوء وبرودة التأمل في آنٍ واحد.

الفراغات البيضاء ليست غيابًا، بل صمتٌ مُضيء يحمل نَفَسًا صوفيًا.

الفنان هنا لا يرسم مشهدًا من الخارج، بل ينحت لحظة داخلية من الوعي الجمالي.

كل لونٍ هو انفعال، وكل مسافةٍ بين الألوان هي لحظة تأمل أو تردّد بين الحلم والحقيقة.

إنه يرسم كما يتنفس، ويكتب باللون ما لا يمكن قوله بالكلمات.

من خلال هذه اللغة المائية الرهيفة، يقدّم لقمان أحمد فنًّا يتجاوز العين إلى القلب، ويُذكّرنا بأن الفن ليس موضوعًا للفهم بقدر ما هو تجربة للحسّ والشعور.

فلوحته ليست ترفًا بصريًا، بل تأملٌ في معنى الوجود الإنساني نفسه، في علاقته بالضوء والماء والزمن والذاكرة.

وهكذا، تتجلّى تجربة لقمان أحمد بوصفها رحلة داخلية نحو النور، ورغبة في الإمساك باللحظة الهاربة بين الفوضى والسكينة.

إنه فنان لا يرسم ما يراه، بل ما يشعر به حين يرى؛ وهذا ما يجعل أعماله صادقة وعميقة وباقية في الذاكرة.

بقلم:

محمد حجازي البُرديني.

ناقد وشاعر وباحث في الجماليات المعاصرة. 


 

Featured Post

ماذا بعد؟..بقلم: راتب كوبايا

ثقافات