إلى وعد⁴
وها أنا
— في هذا الليل
البعيد يا وعد —
أكتب إليكِ كما لو
أنّ الحبر نافذةٌ تُطلّ على روحي، وكأن الكلمات هي الطريقة الوحيدة التي تبقّت لي،
لأثبت أنني ما زلتُ حيًا، أنني ما زلتُ أقدر على حمل نفسي دون أن أنهار
كما انهارت المدن
التي أحببناها ذات صباح... أكتب إليكِ الآن كمن يحاول أن ينتزع قلبه من صدره
ليعرِضه أمام الضوء، علّه يفهم شكل الخراب الذي يسكنه، لم أعد أكتب رسائل منفصلة،
أصبحت حياتي كلها رسالة واحدة طويلة، غارقة، ممتدّة مثل جرحٍ لم يجد فرصته ليلتئم.
أعيش،
في هذه المدينة البيضاء كأنني عالق في صفحة
محذوفة من ذاكرتي؛ كل شيء هنا بارد أكثر مما يجب، صامت أكثر مما يُحتمل، وكأن
المباني نفسها فقدت أسماءها وتعيش على الهامش... أستيقظ كل صباح، وأمشي إلى المطعم
بخطواتٍ لا أملكها، وأغسل الصحون وكأنني أغسل وجهًا لا أعرف صاحبه. الماء البارد
يجري فوق يديّ، فيوقظ شيئًا كان يجب أن يموت منذ زمن، لكنّه لا يموت… يكابر… يصرّ
على البقاء، كما يصرّ الجرح القديم، أن يُذكّرك بأنه لا يزال هناك نيئًا صدئً.
أحيانًا،
وأنا أقف أمام المغسلة، أشعر بثقلٍ يهبط على
صدري دون سبب، أتذكّر ضحكتك—ليس كاملة، بل طرفها فقط—ذلك الطرف الذي كان يرتجف
قليلًا حين تحاولين إخفاء ابتسامتك. يرتجف قلبي معها، وكأنني ما زلت أقف أمامك،
أحاول بجهدٍ مضحك أن أبدو قويًا بينما أنا في داخلي أتساقط، عظمةٌ، عظمة.
في الليل،
حين ينتهي العمل
ويغسل الجميع أيديهم ويمضون، أبقى أنا قليلًا عند الباب. أسمع صريره، فأرتجف... لا
أعرف لماذا أصبح صوت الباب يشبهكِ: يفتح العالم عليّ بطريقةٍ لا تحتمل، ويغلقني
على نفسي فجأة، كأنه يريد أن يقول شيئًا ثم يتراجع، مثلك تمامًا...
وحين
ينام الجميع، أعود إلى غرفتي الصغيرة—غرفة تشبه
مقبرة بلا شواهد—
أفتح زجاج النافذة
قليلًا، لأسمع كيف يسقط المطر على الأسفلت، وكلما هبط المطر على نافذتي، أشعر أن
العالم يعتذر لي بطريقةٍ ما، وبهدوءٍ يشبه الاعتراف، وبثقلٍ يشبه الخيانة... أتابع
كل قطرة، وكأنني أحصي عدد الأيام التي ضاعت من حياتي، عدد الوعود التي لم تتحقق،
عدد الطرق التي سلكتها، وأنا أعلم نهايتها، ومع ذلك مشيتها.
_الطيب عمر