هندسةُ الألمِ
الأدبيّ: حين يتحوّل الوجعُ إلى بنيةٍ معرفية وجمالية:
بقلم: عماد خالد رحمة
_ برلين.
ليس الألمُ في الأدب
انفعالاً عابراً، ولا دفقاً عاطفيّاً يندلق على الصفحة؛ بل هو ـ كما يصفه رولان
بارت ـ «شكلٌ من أشكال المعرفة، يُصيب اللغةَ فتتوترُ وتبحثُ عن شكلٍ جديدٍ لقول
ما استعصى قوله». فالأدب، في جوهره، هو تلك القدرة الفريدة على تشييد معمارٍ من
الجراح، وابتكارِ هندسةٍ للوجع توازي هندسة العالم، أو تتفوّق عليها.
1. وجعُ الشعر: اللغة
بوصفها جرحاً مفتوحاً.
يرى أدونيس أن الشعر
«يمتاح من جرحه الخاص»، وأن الشاعر لا يبتكر اللغة إلا حين يُصاب بها. ولعلّ شعراء
الحداثة ـ من بودلير إلى درويش ـ أدركوا أن القصيدة ليست تعبيراً عن الألم، بل هي
صياغتُه في بنيةٍ تكثفية تُعيد ترتيب الفوضى الداخلية في إيقاعٍ قادرٍ على حمل ما
لا يُحتمل.
إنها هندسةٌ عمودية،
تُشيّد من النزيف سلّماً نحو المعنى؛ فالشاعر يفتح الجرح لا ليصرخ، بل ليجعل
الصرخةَ شكلًا لغويّاً يُقيم فيه القارئ.
2. وجع القصة:
الحكاية كأداة لقياس الشقوق الدقيقة في النفس.
اعتبر أنطون تشيخوف
أن "القصة الجيدة هي التي تُشعر القارئ بأن روحه قد خُدشت بطريقة ما"،
فالقصة القصيرة تعمل كعدسةٍ مكبّرة تلاحق التفاصيل التي تُهملها الحياة. إنها
هندسةٌ أفقية، تختبر هشاشة الإنسان وهو يواجه قدراً صغيراً لكنه قاسٍ.
وفي هذا الفضاء، لا
ينقل الكاتب الألم فحسب، بل يشكّله: يصمّم حركته، ويمنحُ الصمتَ هندسةَ حضور،
ويجعل من الجرح نقطة ضوء تتوزّع على المسار القصصيّ.
3. وجع الرواية:
المعمار الكبير للانكسار الإنساني.
يذهب ميلان كونديرا
إلى أن الرواية ليست إلا «مختبرًا للوجود الإنساني»، أي المكان الذي تُختبر فيه
قابلية الروح للانكسار وإعادة التشكل. فالرواية هندسةٌ مترامية الأطراف تُقيم
جسوراً بين الذكريات والجراح والأحلام، وتجعل الإنسان مرئيّاً في أعمق لحظاته.
دوستويفسكي، من جهته،
جعل الألم حجر الزاوية في بنية الرواية؛ فشخصياته تبحث عن الخلاص من جحيمها
الداخلي عبر السير في دهاليز النفس. إنها هندسةٌ درامية تصنع من كل عطبٍ كياناً
روائيّاً يعبر عن صراع الإنسان بين السقوط والنهضة.
4. وجع المسرح: الجسد
بوصفه نصّاً من الألم الحيّ.
يرى أرتو في “مسرح
القسوة” أنّ المسرح الحقيقي لا يُمثّل الألم بل يجسّده، ويخلق لغةً جديدة تصرخ
بالجسد كما تصرخ بالكلمة. ففي المسرح، الألمُ معماريٌّ بامتياز: له حركةٌ، وصوتٌ،
وظلٌّ، ومسارٌ على الخشبة.
وتتحوّل الخشبة، عند
توفيق الحكيم وسعد الله ونوس، إلى مختبر سياسيّ وروحيّ، حيث يُعاد ترتيب الوجع
الجمعيّ في مشاهد قادرة على إيقاظ الضمير أو فضح العبث.
5. الألم كقيمة
معرفية وجمالية:
اعتبر نيتشه أن «كل
فنٍّ عظيم يولد من الألم»، ليس بوصفه ندبةً، بل بوصفه قوّةً خالقة. فالأدب لا يهرب
من الوجع، بل يحوّله إلى أداةِ تنقيبٍ في الأعماق، وإلى لغة ثانية للإنسان.
أما بول ريكور فيرى
أن السرد، بكل أشكاله، هو محاولة لإعادة تأويل الجرح، وجعله جزءاً من هويةٍ قابلةٍ
لأن تُروى؛ أي تحويل الألم إلى معنى.
6. هندسةُ الألم
الأدبي: من الجرح إلى المعنى.
بهذا المعنى، فإن
هندسة الألم الأدبي ليست انفعالًاً ولا شكوى، بل معمارٌ دقيق تُعاد فيه صياغة
التجربة الوجودية عبر الشعر والقصة والرواية والمسرح.
إنها هندسةٌ للنجاة،
تُعيد ترتيب الخراب الداخلي ليصير معرفة، وتحوّل الندبة إلى علامة قراءة.
وهي في الوقت نفسه
هندسةٌ للحرية: لأن الإنسان، حين يُعيد تأويل ألمه، يملك دوره في كتابة قدره.
فالأدب العظيم، في كل
أشكاله، ليس إلا محاولةً جريئة لترويض الألم، وتشكيلِه في بنيةٍ جمالية تُنير
الطريق، وتترك في الروح أثرًا لا يُمحى.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق