ورقة نقدية في لوحة الفنانة التشكيلية "Khunav Saleh" بقلم : محمد حجازي ابرديني

 

ورقة نقدية في لوحة الفنانة التشكيلية "Khunav Saleh"
حين تتكلم الألوان بلسان الأسطورة.
بقلم: محمد حجازي البرديني.
يا للوحةٍ لا تُرى بالعين، بل تُحَسُّ بالقلب! ويا لألوانٍ تُبصرها الروح قبل البصر! حين تقع عين المتأمل على عمل الفنانة Khunav Saleh، يشعر كأنه أمام قصيدةٍ مكتوبة بالألوان، وأن كل ضربة فرشاةٍ فيها بيتُ شعرٍ من نارٍ ونور.
فاللوحة ليست رسمًا فحسب، بل رحلة وعيٍ وجمالٍ تمتد من تخوم الأسطورة إلى شغاف الإنسان. في ظاهرها مشهدٌ من الضوء والظل، وفي باطنها نسيجٌ من المعنى، خيوطه تمتد بين ما هو مرئي وما هو متخيَّل.
كأن اللوحة وُلدت من رحم الحلم، لا من ريشة فنانة فحسب، بل من روحٍ تمتح من الضوء والمسكوت عنه؛ فحين نُقبل على لوحة Khunav Saleh، لا نرى ألوانًا تُسكب على لوحة، بل نرى حكاية إنسانٍ يسير في متاهة ذاته؛ تتلوّن خطواته بأطياف الروح، وتتعانق فيها الرموز والأساطير كما تتعانق أمواج البحر في شفق المغيب.
فمن حيث البناء التشكيلي، تتقاطع الخطوط في انحناءاتٍ لا تخلو من الموسيقى، وكأن الريشة تعزف على وترٍ خفيّ.
التعرجات التي تمتد بين الألوان تشكّل إيقاعًا بصريًا، لا يخضع لصرامة الهندسة، بل يتنفس ككائن حيٍّ ينهض وينحني وفق نبضه الداخلي.
والنتوءات الصغيرة تشبه تضاريس الذاكرة، كل بروز منها يُعلن عن جرحٍ أو نبوءة، وكل ظلّ يُشير إلى ما أخفته التجربة خلف الألوان.
فالانحناءات والتعرجات والنتوءات، ليست عشوائية. كل منحنى يلمح إلى قصة داخلية، كل التواء يوحي بحركة حياتية متوترة بين الحلم والواقع، بين الخيال واليقين. والنتوءات والطبقات المكانية تمنح اللوحة بعدًا ثالثًا، كأننا ننظر إلى عالم حي يتنفس تحت سطح اللوحة، عالم يحمل أسرارًا وأساطير لا تنتهي.
أما الإضاءة في العمل ليست مصدرًا خارجيًا، بل نور داخلي يخرج من بين الشقوق، كما لو أن اللوحة تُضيء ذاتها بنفسها.
هنا يتحوّل الضوء إلى بطلٍ صامتٍ، يهمس في أذن المتلقي: انظر بعيني القلب، لا بعيني الرأس. فالإضاءة هنا ليست مجرد أداة لإظهار الشكل، بل هي لغة روحية، تُمهد الطريق لتجربة المشاهدة العاطفية. الضوء لا يسقط على الأشياء فحسب، بل يلمس الروح؛ يكشف عن أبعاد مخفية ويجعل القارئ يرى أكثر مما تراه العين وحدها.
فكل عنصر في اللوحة يخدم فكرة أكبر: أن الفن هو تجربة وجدانية قبل أن يكون رؤية بصرية.
والحقيقة أنّ ما يُميّز أسلوب Khunav Saleh هو القدرة على مزج التجربة الشخصية بالرمزية العامة، بحيث يشعر المتلقي بأن اللوحة ليست مجرد رؤية فنية، بل رحلة ذاتية نحو ذاته، رحلة يرافقها الانبهار، والتساؤل، والدهشة. في النهاية، نجد أنفسنا أمام لوحة لا تروي قصة واحدة، بل تفتح لنا أبوابًا لقصص متعددة، حيث يلتقي الأسطورة بالواقع، والخيال بالحقيقة، والحضور بالغياب. فالرمزية في هذه اللوحة متشابكة بعناية. والقناع الذي يظهر في أحد أركانها ليس مجرد رمز للهوية المخبأة أو الغموض، بل دعوة صامتة للغوص في أعماق النفس البشرية لاستكشاف التناقض بين ما نراه وما نخفيه. أما الأسطورة هنا لا تأتي من حكاية قديمة، بل من إحساس متجدد بالعالم الداخلي للإنسان، حيث يتصارع الواقع مع الحلم في كل زاوية من اللوحة.
في الركن البعيد من اللوحة، يطل القناع كأنه وجه الحقيقة المجهولة. ليس القناع هنا إخفاءً للهوية، بل كشفٌ مضاعف عنها. إنه رمز الإنسان الذي يعيش في صراع بين الظهور والاختفاء، بين ما يبوح وما يكتم.
أما الألوان المتقابلة، الأرجواني والأزرق والذهبي، فهي رموز لحالات الوجود:
الأرجواني يدل على الحنين والرفعة الروحية،
الأزرق على الغياب والهدوء الميتافيزيقي،
والذهبي على الخلاص والخلود.
هكذا تتحول اللوحة إلى مرآة لروح الإنسان حين يتأمل وجهه الحقيقي خلف القناع، ويكتشف أن الجمال ليس ما نراه، بل ما نؤمن أنه كامن في الظل.
تستدعي Khunav Saleh في عملها روح الأسطورة لا من باب الحكاية، بل من باب الرؤية.
في ملامح اللوحة إشارات إلى أنثى بدائية مقدسة، تلك التي كانت تمسك بخيوط الفجر وتغزل منها ضوء الحياة.
هي ليست امرأة محددة، بل رمز الأنوثة الكونية، الرحم الأول الذي وُلد منه الكون.
هكذا، تندمج ملامح المرأة في اللوحة مع عناصر الطبيعة، التراب والضوء والماء، لتصنع ميثولوجيا جديدة، يكون فيها الجمال فعل خلقٍ أبديّ.
وتُقدِّم اللوحة نفسها كنصٍّ مفتوح على التأويل؛ لا تفرض معنى، بل تُثير سؤالًا:
من أنا في هذا العالم المتشقق بالألوان؟
هنا يتحد المتلقي مع اللوحة في حوارٍ صامت، يتجاوز ظاهر الشكل إلى باطن الشعور.
فمن يرى فيها حزنًا قد يكتشف أن الحزن كان طريقًا للجمال، ومن يراها صراعًا قد يكتشف أن الصراع هو ذاته ولادة جديدة.
في ضوء التحليل النقدي السابق للوحة، نرى أن لوحة Khunav Saleh ليست عملًا بصريًا فحسب، بل تجربة روحية وجمالية متكاملة.
كل لون فيها فكرة، وكل انحناءة تأمل، وكل ظلّ اعتراف.
لقد جمعت الفنانة بين الصرامة الأكاديمية والعفوية الشعرية، فصاغت عالمًا يعجز اللسان عن وصفه؛ فالجمال في اللوحة لا يُرى بالعين، بل يُحَسّ بالقلب.
وهكذا، تصبح لوحتها نبوءة في شكل لون، واعترافًا في هيئة ضوء، ورحلة لا تنتهي في عمق الإنسان.
استكملت الورقة النقدية بتاريخ الثلاثاء 4 / 11 / 2025 م.
mohammedalbordene@gmail.com
962776537021


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Featured Post

ماذا بعد؟..بقلم: راتب كوبايا

ثقافات