قصة قصيرة بقلم : فوزي نجاجره
البحث عن نبهان
ميس الريم تقول:
يا الله، كم احترت في
إيجاد وسيلة تقودني إلى عنوان عائلة نبهان. ومن بين محاولاتي الكثيرة في البحث عن
هذه العائلة، لجأت إلى الشبكة العنكبوتية مستخدما محرّك البحث جوجل ، لكن في كل
مرة كانت النتيجة واحدة: لم يتم العثور على هذا الاسم.
بعد أن جبتُ القدس
وبيت لحم دون جدوى، قررتُ متابعة البحث في وسط فلسطين المحتلة، في مدن يافا واللد
والرملة. في يوم جمعة، سافرتُ إلى يافا قاصدةً الجوامع هناك. أدّيت صلاة الظهر في
جامع المحمودية العريق، ثم حاولت التحدث مع الكثير من الناس، أستعلم منهم عن عنوان
لعائلة نبهان إن كانت تسكن في المدينة أو بالقرب منها، لكن كل محاولاتي باءت
بالفشل. أمضيت نصف نهار أتنقل بين حي المنشية وحي العجمي أسأل هنا وهناك دون
فائدة.
سرتُ بعدها على أحد
شواطئ يافا، فاستوقفني مبنى عربي قديم كان يستخدم يومًا كمكتب للجمارك الفلسطينية
في زمن العثمانيين والإنجليز. اقتربت منه وقرأت لافتة على جداره مكتوبة
بالإنجليزية والعبرية تقول:
"تم تحرير هذه
المدينة من الغرباء العرب بتاريخ السادس والعشرين من نيسان عام 1948."
كم آلمتني هذه
العبارة! تحرير من الغرباء العرب؟!
أحسست بدوار يضرب
رأسي، وشعرت أن جوهر هذا العالم يرتكز على الظلم. أيّ كذبٍ هذا؟! أيمكن أن يكون
أصحاب البلاد الأصليون غرباء، بينما القادمون من أوروبا وأمريكا وأستراليا هم
أصحابها الشرعيون؟!
جلست على الرمل أحاول
تهدئة انفعالاتي. رحت أراقب الناس الذين يمارسون رياضة المشي على الشاطئ في المسار
المخصص للمشاة ولراكبي الدراجات الهوائية. مرّ كثير من الصهاينة أمامي، فلفت نظري
رجلان بين الستين والسبعين من العمر، يعتمران قبعتين تدلان على عجرفتهم وكبريائهم،
توحي ملامحهما بأنهما متقاعدان.
حين أصبحا أمامي، لحق
بهما طفلان فلسطينيان يركبان دراجتيهما الهوائيتين، لا يتجاوز عمرهما العاشرة،
يضحكان ويغنيان ببراءة وفرح. اقترب الطفلان ببطء من الرجلين المتبخترين، وفي لحظةٍ
خاطفةٍ، التقط كل منهما قبعة أحد الخواحات، وأسرعا مبتعدين ضاحكين. توقفا على بعد
خمسين مترًا، ثم صرخا قائلين:
"أنتَ وهو...
هذه قبعاتكم القذرة! اختفوا عليكم وعليها ، انظروا إليها!"
وبحركةٍ جريئةٍ طوحا
القبعتين إلى موج البحر، ليتولى الموج إكمال مسخرتهما وتهزيئهما . حاول الرجلان
اللحاق بالأطفال فلم يفلحا، فاتجها نحو البحر يطاردان الموج، يرجوانه أن يعيد لهما
قبعاتهما، وهما يسبّان ويشتمان العرب بأقذع الألفاظ.
غاب الطفلان نحو عشر
دقائق، ثم أعادا الكرّة مع رجلٍ وزوجته يمشيان على الشاطئ في خيلاء . وفي مشهدٍ
مماثل، اختطف كل طفل قبعة أحد الزوجين، وانسحبا مسرعين وضحكاتهما تملأ المكان. صاح
الزوجان مهددين ومتوسلين أن يعيدا لهما القبعتين، لكن دون جدوى، إذ سرعان ما قذفا
بهما إلى البحر من جديد، ليعبث الموج بهما كما شاء.
وعندما يئس الزوجان،
توجّها إلى البحر يناجيانه برجاءٍ أن يعيد لهما قبعاتهما، وهما يقذفان الأطفال
بشتائم باللغة العربية الفلسطينية نفسها، التي سرقوها من أهلها، كما سرقوا مدينتهم
يافا عام 1948.
نهضت من مكاني وتبعت
الطفلين وسألتهما:
– مرحبًا يا حلوين،
هل أنتما من أهل يافا الأصليين؟
– نعم، نحن يافاويون،
وهذه مدينتنا.
– يا أطفال، هل
تعرفان أين تسكن عائلة نبهان محمد عيسى كنعان؟
نظر أحدهما إلى
الآخر، ثم نظرا إليّ وضحكا كما لم يضحكا من قبل، وقال أحدهما:
– وهل نبهان هذا رجل
صالح؟
أجبته:
– ألا تعرفانه؟! إنه
بطل من أبطال شعبنا الفلسطيني!
قال طفل بابتسامة
واثقة:
– أعتقد أن روحه تسكن
فينا...
ثم مضيا يلهوان من
جديد، وضحكاتهما البريئة تملأ الشاطئ، وكأنهما يعيدان للحياة معناها المفقود.
كان ذلك بعد ذكرى
الثلاثة وسبعين عامًا على احتلال مدينة يافا .
.jpg)



