حظر تجوال



حظر تجوال


        في حشدِ الأفكار وصـتيت الروح، أُكَلَف  بأعمالٍ مرهقةٍ، اتَجشم هولَ تلك الأعباء، وأتناساها حين أخوضُ غمارَ أحلامي المترفة فاتَلدَّنُ عليها، أو حينَ أرتبُ أجزائي المبعثرة، أندسّ في فراشي، وأغمضُ عينيّ، لأحلمَ بأشياء يتعسرُ عليَّ لمسها أو نيلها.. أفَقتُ على لمستهِ لكتفي، وجاء كلامهُ معي فراطًا، وفي ترقب ملحوظ لكلينا، رافقتهُ للصالة، وبقيتُ كما أنا عالقة بي رائحة الشواء، سألتهُ عما يرغب  !
قال: قهوة حلوة ..
ويعني هذا، سكرها بنسبة 70% ... سرقتُ بعض الخطوات لغرفتي، أبدلتُ ملابسي على عجلٍ، ورتبتُ هندامي وأنعشتُ روحي بمسحات خفيفة لوجنتي وشفتي وأسبلتُ شعري ..
شعور غريب انتابني حين وضعتُ أمامهُ فنجانه وقدح الماء .. طال تحديقه فيّ .
التفت يمينًا وشمالًا رأيتُ بعضنا فقط في الغرفة، بعدما كانت ممتلئة بضجيجهن .. بدا لي أنّ أمرًا ما، مطروقًا بعيدًا عني ..
قال: أجلسي لنخطط كيف سننهي الأزمة .....
-  أية أزمة ؟
- ألا تعلمين ؟
- وضح .. !!!
- زواجنا ...!
- ومن صرحَ بذلك  ؟
- الأعرافُ والسُنة ..
اغتالني الصمت .. وتراءى لي تكسرُ أحلامي ...
- هل باتتْ أحلامك وئيدة ؟
- وأنتَ مابال أحلامك ؟
- إن روحي لم تتكسر الآن، لأنها سبق وأن  كُسرت، وأُعلنَ على إرَبي حظر التجوال، فقد كنت محتاجًا، أن يُكسر قلبي لكي لا يصادرهُ أحدٌ لا أحبهُ .
- صادرتهُ هي ؟
- نعم، فلن أتمكن من منحكِ قلبي، وارتباطنا سيكون صوريًا .
 - ارحتني ..
 - مختصرة ... آه نسيتُ حين أكونَ معكِ، أعيشُ عصرَ اختزال الكلام .

* * *

مرتشفًا قعرَ قهوتهِ .. تداركَ سقوط رماد سيجاره، حين لمحني أمدُ يدي لدفع المنفضة تحت ناصيتها، احتضنهُ في كفهِ، مطبقًا عليه خوفًا أن يتسربَ حريقُ كلماتهِ من بين أناملهِ، حين تسربلتهُ فكرة ابتعادهِ عنها .. وأن تتشظى روحه من دونها، قام متوجهًا صوب النافذ، ذارًا إياه بنفحة ٍ من فمهِ.. قال وفي حلقه غصة :

- تعلمتُ منكِ كيف أُرقنُ قيدي، وهذه ضريبة ضعفي أمامكِ، دخلتُ لكي أنهي أزمة، لا أن أفتحَ جبهة أخرى، ولكونكِ أرقى مخلوقة ولدت في عشيرتي، يبدو أنّ يومي بدايته بالبكاء ولن ينتهي بـ ... مازلتُ أبكي، هكذا عرفتك .

* * *


أجبتهُ باقتضاب وعينيّ دامعة ..
 - أبطالُ روايتكَ هم أبطالُ روايتي، لِمَ نحن لا نخرج من حدود عالمنا والعشيرة ...؟
- لانستطيع، تلزمنا سرعة أكبر من سرعة الصوت.
- هل ما زلت تبكين ؟
- نعم
- أعطني نصف مناديلكِ وأنفكِ الأحمر .
- لم تعدْ مناديلي كافية .
- أنت إنسانة حساسة، ومناديلكِ بدتْ قليلة، ودموعكِ بالأطنان، أنا الآخر لا أريد أن أُؤذيكِ، ولكن حسبي وحسبك أنّ الملائكة لا تنجب ولا تتزوج، حسبُها أنْ تحتفظ بحبها، وبريقها الذي له إلتماع دموعك ...
- أضيعُ معكَ ..
- يسعدني التسكع معًا، مادام الرقيب لم يعلنْ على لساني بعد حظر التجوال، سأخبركِ عنها شيئًا، أحببتها مابين نفسي ونفسي، وكنت سعيدًا في عدم إيصال كل الأشياء إليها، كنت أريد أن استمر في حالة التناغم دون أن تدري، من حقي أعيش، كما أريد أن أعيش، ولكن أن أُسمعكِ احتضاري، هذا ما أثار جنوني .
- شاعرٌ أنت !
- الشعر صفة عشيرنا، فاعتبريهِ كلام شاعر يكذب، والليل يحرض على الكذب .
- إيه يا ابن العم تبكيني، لأن روحي مازالت تمتشق روحه، وفي يومي المزدحم أتذكرهُ في أجزاء الثانية، واتعاطاهُ وابتسم حتى آخر مدى أسناني  كالمجنونة.
- كم أنت رائعة، لا تبكي عندما يضربكِ سيف الإنسانية .
- أفقد الشعور  بالإنتماء لكَ ..
- هل تحرّضينني على كرهكِ؟ أنت مخطئة، بل تحرّضينني على فهمكِ.
- أنا بعيد عن لجامكِ لي، أنا سائسُها الأمين، وهي مليكتي، والأعرافُ تطلب مني الزواج من الأميرة، لكني استطيع الإنقلاب .

-  لن تتمكن.
- شيء واحد يعيقني ربما، صدقي معكِ.
- وإن أُجْبرتْ!
- لا تخافي لن أسرق خيولكِ .
- تصوري، في حياتي تمنيت أن تكون لي غرفة خاصة، تعذر عليّ ذلك، ولما قرروا ارتباطنا وهبوني غرفة متكاملة الرشوة
- فهل ستبني من حطامِ قلبي قلاع مجدكَ؟
- مادامت ابتسامتي لك عذراء، اقطفي زهرة خرساء من بين حطامي، لتتعلمي منها نقطة البداية، لأول ارتعاشة قلب وشهقة وجد، وإنّ العالم يشبه استدارة قلبي، ولتتعلمي الحكمةَ من تلك الزهرة، في أن الحب سيمفونية تعزفها القلوب المحطمة،  فأبني قلاعكِ من قلبي المحطم، سيري في أروقتها، وحين يختفي ظلكِ، ستجدين ما يتبعكِ، ليس سوى ظل احتضاري.
وددت لو ينتهي الموضوع ..كم تمنيت أن أختلي بين نفسي ونفسي، أو أن ألوذ بصمتي، حتى وإن كان ذلك في حضرته .. قلت في غايتي إنهاء لحظات باتت وشيكة أن يُوقد النار فيها:
- لا أحب أن أقتص من وقت راحتك معها.
- الوقت معكِ اعتبره طقوسًا .
- وإن يكن، لا أحب ذلك.
- ولكن اقتصاصكِ قصاص عادل، لهدر الوقت اليومي في بعدها القسري عني .

* * *

- كلميني عنهُ ..
- أسمعُ قلبهُ كيف ينبض .. و .
لم يدعني أكمل قال متعجبًا:
- أعلم  أنّ مجاهيل قلبكِ سحرية، والوصول إليها ضرب من ضروب المستحيل، وإن بحركِ ليس له آخر، كيف وصلكِ ؟
- أحبَ إعتلاء موجي، وكان لي وطنًا، فهو يشبهني، تمنيت أن يشبهني حتى في بصمة الإصبع
- كيف ... ؟
- لأنه إنسان، يقول معكِ الكلمات تتوه من بين أصابعي وتتلاشى، أية مخلوقة أنتِ ؟.. هي معك جذوة المساءات وتراتيل العاشقين .
- لِمَ لفك السكون ؟ .. هل أوجعتكَ ذكراها ؟
تنهد وأطال في تنهيدته ..وحاصرتني نظرات استغرابهِ، وتردد وكأنه يبحث عن ردود مبهمة قال:
- لا لم يك كما ذكرت، لأني لا أعرف الاسترسال في عشوائية حياتي، فهي سفينة ضائعة في غياهب لهيف القلب، أخذت زمنًا خرافيًا، غير أنّ الأزمنة أقصر من أحلامي . ..

لم يكمل حديثه .. وراشقني بنظرات حديثة العهد، اكتنزت عيناه كل تفاصيلي.. ركزَ كوعه على مسند الكرسي ..وقد قَنَعَتْ أصابع يده اليمنى صفحة وجهه، ناظرًا لي من خلالها بإبتسامة ماكرة،غرة، قائلًا:
- ارتحت لك جدًا، تسحرينني، ساستبدل الأبطال، كنت أخافك ِ، آآآه دعيني أقبلُ نفس السنة التي ولدنا فيها ..
- مابكَ..؟
- لاعليكِ، دعكِ مني .. اكملي :
أردفت قائلة:
- معي، الأشياء الجميلة حلمْ، تُقتَلْ عندما نصل إليهِ أو نفسره، هكذا تعلمتُ الجمال، قبل أن أقرأ فكرة الجمال لهيغل، رغم هذا وذاك أحب العودة بين الأهل، وأن أعيش ذكراه ....
- ستأتين، وستضجرين من النفاق والعشوائية، وتحلمين في السفر مرة أخرى، وتصادر ذكراه منكِ، يكفي إنك ستجدينني مبتسمًا أمامك، أكبر منافق في التاريخ ..

همهمتي جاءت في مفردات غنجة، انسدلت دون وعي مني، وغمرني الشوق فيها فقلت بلهفة .
- ساقَبلَهم، وساسمعهم، ساعيش لحظاتهم ..ساركض بكل الإتجاهات .. وسأقبل أزهاري وأشجاري وسأقَبلُكَ ...اوقفني رفعه لحاجبيه .. فقلت: يبدو إني تجاوزت .
- مبتسمًا ومنتشيًا قال: دعي الروح تتكلم لا تلجميها، التقبيل ليس جرمًا شائنًا، ستقبلينني بين عيني هكذا سأطلبُ منكِ ..أنتِ تبعثين على الأمل .
- وهل ستدعني أعيش لأجلهِ ...؟ أم ستسرق خيولي ؟
- سأنقلب رغم صدقي معكِ، لو رقنت قيدكِ قبل أن أعرفكِ أكثر، لكنت قد وفرت الألم، لكن بعدما ضربتني ركلًا بكل ما فيكِ، وفي لحظات أدمنتُ ركلكِ . ..
- قلت بعصبية مخنوقة، هل تهذي يارجل ... ؟
- نعم أعذري قلة أدبي لأنها الحقيقة، قلبي معكِ، وأعتذر جدًا، لأني أنا الآخر امتلكُ شاربين، وأعتذر أيضًا لرجولتي التي لا يمكنها التنصل من الأعراف والسُنة، لشغفها بك على حين غفلة، وأعتذر لأني أعيشُ زمن الصعاليك، وأني اكتشفتكِ متأخرًا .. ولأننا ولدنا في زمن الأسلاك الشائكة، والعواطف الشائكة، أعتذر لأني لم أبكِ جيدًا الآن، كم متعبٌ ومحبطٌ أنا؟
- ماالذي فعلتهُ لكي تجلدني هكذا .. ؟ .. كفْ إنك تؤلمُ رأسي، وتبكيني .. آهٍ .. سيسهدُ ليلي المثقل، وستضاجعني الأوجاع وترمي بي الهموم ..
- إنك تقطعين قلبي، رغم أنّ القدر أحمق، جئت ِ في وقت، أنا أتكسر فيه، وأنتِ تمكنت من لصق أجزائي. . أتوسلكِ، لاتعلني حظر التجوال على خطرات ِ قلبي، أرجوكِ خذي إجازة من رأسك، كفي عن البكاء واضحكي، اسمعي كلامي .. ابتسامتكِ تغنيني عن الدنيا، أنا أحبُ فقري، كما أحبُ ابتسامتكِ وضحكتك .

- ووعودك لها ..؟ِ
- لن أتخلى عن الأعراف والسُنة ، سأقدسكِ ............

قراءة في تجاويف مداد الروائي فاضل العتابي





قراءة في تجاويف مداد الروائي فاضل العتابي



ذات مساء موحش بارد بعد مرور أكثر من شهر على وجوده
نودي على اسمه
لبسه الخوف
وأدخل إلى  غرفة التحقيق وهو معصوب العينين
ولم يسمع سوى صوت ضربات قلبه المتلاحقة، شعر بجفاف حلقه وعطش تمنى نقطة ماء تبلل ريقه لكنها شحيحة وبعيدة المنال أضحت عليه
وسمع ضربة قوية على مكتب حديدي ارتعدت  معها كل أعضائه
وبادره ذاته الصوت بالسؤال:
سامي
اليوم راح نبدي معاك ومثل ما خبرتك من قبل إذا  تجاوبت معي راح افتح  لك الباب وتذهب للبيت مفهوم ؟
لم يجب سامي
وإذا  بلطمة على وجهه  ليختل توازنه ويسقط هو والكرسي الذي يجلس  عليه
ويعاد إجلاسه  من جديد
سامي راح أذكر لك أسماء إلي  تعرفه قول أعرفه فاهم ؟
- من موطن الخيبات .. فاضل العتابي


- اسمه الكامل: فاضل ياسر حسين العتابي
- استيقظت العائلة على رائحة البخور وإشراقة فجر ندي، لتحتضن وليدها وهو ينسل من تجاويف الضوء في عام 1954 في بغداد، الكرخ - محلة الرحمانية -
- صكوك علومه: دبلوم معهد تكنولوجيا - كهرباء عام ..
- خرج من عمق الرؤيا: خريج كلية الإعلام بغداد
- حط موظفًا في وزارة الإعلام - الإذاعة والتلفزيون ...وآخر ورقات دفتره كانت في عام 1985 عندما فصل منها.
-  خارج أسوار الوطن: أخذته منافٍ عدة،  كمهاجر في الباكستان، الأردن، كردستان العراق .
- قبل احتلال العراق عاد إلى بغداد من كردستان
-  آخر المطاف استوطنت روحه بلجيكا
- نصبت أصابعه كمين الكتابة، فأصبح عضوًا في:
عضوِ نقابة الصحفيينَ العراقيينَ
عمل مراسل لوكالةِ الناظر الإخبارية
وكالةُ قارئ للأنباء

-     ترجم حبره بحق توجعاته في الوطن، مستغرقًا في إبحاره بين بحور روايته لخمس سنوات مضت، فكانت روايته الأولى "موطن الخيبات" شارك بشجنه في مسابقة  "كتارا" لدورة 2020
-      
نزل عاري الجسد ليغرق نفسه بمائها ويشرب منه عله يروي ويطفئ ظمأه، وبعد ساعة من الزمان والاسترخاء على شاطئها الأمين جلب له قطعة قماش كي ينشف جسده رفض الأمر قال له دعني ألبس ملابسي كي احتفظ بحبات  الرمل والطين بين طياتها.
وبعد خروجه منها أخذ حفنة كف من طينها ورملها ليودعها كيساً ليحتفظ به.
عاد به الشاب قريب الفندق لينزله والساعة قاربت الفجر ليتهادى له صوت المؤذن لجامع الحيدرخانة القديم جلس على الرصيف مسترخيا ليسمع الأذان وسط هدوء بغداد وكسلها.
تراءى له وجه أمه.
يبتسم وجهها مشرق يسر ناضره وتزينه تلك الحبات الزرق كحبات مسبحة الفيروز من صدغها وهي تنزل حتى آخر رقبتها تضئ عتمة أيامه أينما حل، وتبدد قلقه وخوفه من ما يعانيه وما يمر به.
توسد وجهها الباسم وغفى
حلم أنها تملي عليه كلمات
يسافر به وجه أمه
محمولاً على هذه الحكايا
ينسج له من أرصفة الطرقات أماني
معجونة بنكهة التسكع والضياع
يستظل وجهها بفيء الوجع
يلوك سياط الجلادين
يحتسي تندر المارة في هذا الغبش البليد
لا يقوى على البقاء هنا
هنا الأجساد تنهش بعضها
كي ترسم لوحة البقاء

-     وهناك قيد الإنجاز رواية "حين يشيخ النسر"

-     كان معنا أحد قناديل المنافي الأستاذ فاضل العتابي : كاتب سياسي وروائي.


_________________________
_____________* * * ________
إنك أعمق من أغواري
 أخاف استنفاد الكلمات ونزف حرفي ويصاب قلبي بفقر النبض

Featured Post

ماذا بعد؟..بقلم: راتب كوبايا

ثقافات