إلى وعد³
وعد،
أكتب إليكِ كما يكتب
المطر على التراب قبل أن يجف، أكتب لأن في صدري بلادًا لم تخرج منها الحرب بعد،
ولأن اسمكِ وحده ما زال الشيء الوحيد الذي لا يحترق.
أتذكرين؟
كنا نخطّط لكل شيءٍ
ببراءة الذين يظنون، أن الغد وعدٌ لا يخلف نفسه... كنا نرسم بيوتًا صغيرةً على
الورق، بابها أزرق مثل عينيكِ حين تضحكين، ونافذتها تطلّ على ضوءٍ هادئٍ لا يشبه
المدن، ولا يشبه الخرائط التي كُتب الفقد عليها...كنتِ تقولين:
"سنسكن بيتًا من
حبٍّ لا تصل إليه الحروب" وكنتُ أصدّقكِ، كان في ظننا الواهن، أن الحروب
دائمًا ما تأتي من الخارج، لكن وللأسف يا وعد؛ ولدت بين الأصابع التي كانت ترتجف
حين تمسك الحلم... كنا نحلم بالبحر، أن نركض حفاةً على الرمل، أن نرسم أسماءنا على
الرمل، ونضحك حين يبتلعها الماء، ويكأنّنا نختبر الخسارة مبكرًا دون أن نعرف...
كنا نعيش، ببساطةٍ لا تشبهنا الآن،
نضحك على الفقر كأنه
صديق، نخفي الخوف في جيب الوقت، ونقول: الأيام ستلين لنا كما يلين الحجر تحت ذخات
المطر، لكن المطر تغيّر يا وعد، أصبح يحمل
في كل قطرةٍ منه رائحةَ رمادٍ قادم.
ثم جاءوا.
ليسوا رجالًا من نارٍ
فقط، لكنهم من أشتات، أشتات العدم، جاؤوا ومعهم أصواتٌ تعرف كيف تمزّق الصمت،
وخرائطٌ لا تعرفنا...
جاؤوا فاحترقت
المدينة كما يحترق صدرُ عاشقٍ ضيّع وعده.
كنتِ هناك.
كنتُ أراكِ من بعيدٍ
تركضين بلا وجهة، شعركِ يشتعل بضوءٍ لم أعرفه من قبل، كأن فيكِ شمسًا صغيرة تدلني
عليك، حتى وأنا أهرب...
في الطريق إلى
المجهول، كنت أسمع الأطفال يبكون كأنهم يسألون أباءهم:
“هل هذه هي الحياة
التي وعدتنا بها الكتب؟”
الجميع صامتون،
يشاهدون، يوثقون خرابهم، يلقون بيوتهم خارجًا، يبيعون بثمنٍ بخسٍ، يبيعون كل شئ؛
حتى الوطن.
كلّ شيءٍ سقط يا وعد،
الحارات البعيدة،
القرى، المدن والوجوه، الأزقة التي شهدت خطواتنا، المقهى الذي كنا نحلم أن نشتريه
يومًا، كلّ شيءٍ سقط… حتى الزمن.
الآن الأيام تُقاس
بعدد الانفجارات، والليالي تُحسب بكم جثةٍ مرّت دون أن تُغسل، لم نعد نعرف من مات
ومن عاش، ولا من بقي منّا داخل جسده، ومن نزح منه قبل أن يغادر المدينة.
حين رحلتُ،
كان على كتفيّ غبار
الشوارع التي فقدت أسماءها، و في جيبي مفتاح بيتٍ لم يعد له باب.
لم ألتفت...
كنتُ أعرف أن
الالتفات يعني البكاء،
وكنتُ أريد أن أحمل
صورتكِ كما هي:
حية، مبتسمة، غير
مبلّلةٍ بالدم...
وعد،
تعبت، تعبت من الكتابة، من المشاوير البعيدة، من الأرصفة التي تشبه الانتظار، ومن التفاصيل الصغيرة التي تنهش القلب كلما مرّت في الذاكرة، لكنّي سأظل أكتب، حتى ينقضي الحبر، حتى تجفّ اللغة في فمي، حتى أفرغ من نفسي تمامًا، سأقص عليك خبري، كما لم أقص من قبلُ.
الطيب عمر




