وصية مسافر، بقلم: سعيد إبراهيم زعلوك
وصيّةُ المُسافِر
فالأرضُ ضاقَت، وضاعَ المَدى في الدُّروبْ،
كَمْ أحرَقَتنا خُطانا على وَهْمِ أُفقٍ،
وكمْ غَرِقَ الحُلمُ في صَمتِ بحرٍ كَئيبْ.
أمضي... ولا خَوفَ يَسْكُنُني أو هُروبْ،
لكنْ أريدُ فَضاءً يُفتِّحُ في القَلبِ نُورْ،
أرضًا إذا ما وطئتُ تُرابَها أنبَتَتْ،
زَهرًا يُجدِّدُ عُمري، ويَغسِلُ عني الجُذورْ.
أهاجِرُ... عن لَيلِنا المُثْقَلِ بالعَذابْ،
عن وَهْمِ أحلامِنا المَصلوبةِ في الضَّبابْ،
عن كُلِّ صَوتٍ يُناديني فلا يَجيءْ،
وعن دُموعٍ تهاجِرُ في صَمتِها كالشِّهابْ.
أخطو... وإنْ سَأَلوني: إلى أَيْنَ تمضي الخُطى؟
سأقولُ: نحوَ البِدايَة، نحوَ الحُلمِ القَريبْ،
نحوَ سَماءٍ إذا أنصَتَ القلبُ أنشدَتْ،
ونحوَ بَحرٍ يُعانِقُني لا يُكرِّرُ موجًا غريبْ.
أمضي... وفي الرَّحيلِ نَجاةٌ، ومَولدُ رُوحْ،
يُهدي الفُؤادَ سَبيلًا، ويَغسِلُ عني الجُروحْ،
فإمَّا رَبيعٌ يُزَهِّرُ في الطُّرقاتِ غَدًا،
وإمَّا شِتاءٌ يُعلِّمُني أنَّ في البَردِ رُوحْ.
أمضي... وأعلمُ أنَّ وراءَ السَّفرْ،
بَذرةَ نُورٍ تُناديني: هُنا يَبتَدِئُ الطَّريقْ،
فخَلفَ الغُيومِ شَمسٌ تُضيءُ بلا ميعادٍ،
وتَمنَحُ قَلبَ المُسافِرِ فَجرًا جَديدًا عَميقْ.
هنالكَ... ينهَضُ ضَوءُ الصَّباحِ كأنَّهُ بُشرى،
تُغَنِّي الطُّيورُ على أفْقِه الوَعيدْ،
ويُفتَحُ بابُ البِحارِ لأشرعَةٍ جَديدة،
تَحملُني حيثُ يَزهرُ في الدَّربِ وُجودٌ جَديدْ.
أرى في العُيونِ وُجوهًا تُشابهُ رُوحي،
تُناديني: جِئتَ أخيرًا... هُنا الوطنُ القَريبْ،
هُنا الزَّرعُ يُورِقُ، هُنا الضّحِكاتُ تَكبُر،
وهُنا أجدُ نفسي، وأفقًا يُعيدُ إليَّ الحَبيبْ.
يا أيُّها الرَّحيلُ... كُنتَ مَنفًى ومَولدًا،
طريقًا منَ النّارِ، لكنَّهُ فَتحَ البَواباتْ،
علَّمتَني أنَّ في النِّهايةِ ميلادَ فَجرٍ،
وأنَّ وراءَ الفَقدِ، تنبُتُ آلافُ حَياةْ.
فامضِ يا قَلبُ... لا تَخشَ دَربًا جديدًا،
فكُلُّ الطُّرُقِ إذا صدَقتْ تُفضي إلى المَصيرْ،
وهُنا... على عَتبةِ الغيابِ كتبتُ وصيّتي:
إنَّ في الرَّحيلِ حَياةً، وفي البَدايَةِ نَصيرْ.
سعيد إبراهيم زعلوك

Comments
Post a Comment